أفلام عربية في "مهرجان دبي السينمائي".. كاميرا الاختراق الإنساني
"قبل زحمة صيف" و"نوارة" و"كلاسيكو" و"3000 ليلة" تُقدَّم في مهرجان دبي في "العرض الأول في العالم".
كعادته في كلّ دورة يتيح مهرجان دبي السينمائي الدولي فرصة أساسية لأفلام عربية مُنتجة حديثًا، لعرضها أمام ضيوف ومشاهدين مهتمين بما تُنجزه صناعة السينما في العالم العربي. لكن الأفلام العربية التي يتمّ اختيارها، لن تكون كلّها ذات سوية بصرية واحدة، وهذا طبيعي. في حين أن مهرجان دبي يحاول إيجاد حيّز لها، خصوصًا أن بعضها أساسي في اختبار أنماط جديدة في الإخراج والمعالجة والتمثيل.
في "مسابقة المهر الطويل" في الدورة الـ12 (9 - 16 ديسمبر 2015) للمهرجان، التي ضمتّ أفلامًا لمخرجين شباب ومخضرمين، هناك تنويعات تُقدِّم اختبارات تجديدية إلى جانب محاولات أخرى للاستمرار في ابتكار صُوَر سينمائية متنوّعة. بهذا المعنى، يُمكن التوقّف عند أربعة نماذج، ينتمي كلّ واحد منها إلى جيل سينمائي عربي - كردي مختلف: المصري محمد خان يُقدّم "قبل زحمة الصيف"، والمصرية هالة خليل تُنجز فيلمها الروائي الثالث بعنوان "نوّارة"، ومعهما الكردي العراقي هلكوت مصطفى، الذي يُنجز فيلمه الثاني بعنوان "كلاسيكو" (الأفلام الثلاثة تُقدَّم في مهرجان دبي في "العرض الأول في العالم"). أما الفلسطينية مي المصري، فتصل بفيلمها الروائي الطويل الأول "3000 ليلة" إلى المهرجان نفسه، بعد جولة سينمائية غربية.
لا شكّ في أن محمد خان يحتلّ مكانة كبيرة في المشهد السينمائي العربي، بصنيعه الفني المنبثق من همّ بصري لديه يتيح له التمعّن في أحوال بيئته الاجتماعية المصرية تحديدًا، وفي انفعالات ناسها وحكاياتهم، فهو على مدى 37 عامًا يصنع من التفاصيل بناءً إبداعيًّا متكاملًا في مزجه الشكل بالمضمون على أساس لغة سينمائية تتوغّل في متاهة البيئة، وتعكس بعضًا من حيويتها وخرابها وانهيارات ناسها وصدامهم اليومي مع الحياة وشؤونها، والاجتهاد الدائم في مواجهة مطبّاتها. أما هالة خليل، فتضع في فيلمها الروائي هذا -المُنجز بعد "أحلى الأوقات" (2004) و"قصّ ولزق" (2006) وأفلام قصيرة أخرى- حكاية شابّة تكتشف بعينيها معالم الانقلاب الحاصل في مصر منذ "ثورة 25 يناير" (2011)، وتكشف -بحساسية إنسانية مرهفة وبريئة وعفوية- شيئًا من وقائع العيش المصري قبل الثورة وبعدها.
في المقابل، يكتفي هلكوت مصطفى بسرد حكاية عادية للغاية، عن شقيقين قزمين يطمحان إلى مساعدة أحدهما الآخر من أجل الاستحواذ على قلب "حبيبة"، ما يدفعهما إلى القيام برحلة إلى مدريد للقاء لاعب كرة القدم رونالدو. في حين تعود "مي المصري" إلى مطلع ثمانينيات القرن الـ20، وتدخل سجنًا تُعتقل فيه مناضلات فلسطينيات ومجرمات إسرائيليات (إمعانًا في إذلالٍ إسرائيلي لشرعية النضال الفلسطيني) في نابلس، كي تتابع وقائع يومية من معنى المواجهة المستمرة بين أبناء البلد والمحتلّين. وهي، بهذا، تقترب من معاناة نساء فلسطينيات لا يتردّدن لحظة عن ابتكار أي شيء ممكن لتفعيل سبل المواجهة والمقاومة، ولا يصمتن عن حقّ وإن كنّ في السجن.
لا يبتعد محمد خان كثيرًا عن التيمة الأثيرة لديه، المتمثّلة في مقارباته السينمائية لأحوال الاجتماع المصري، فهو إذ يذهب بناس "قبل زحمة الصيف" إلى شاطئ البحر، لا يتردّد عن وضعهم جميعهم في مواجهة مرايا الذات والبيئة المقيمين فيها، ولا ينغلق على تأثيرات البيئة عليهم، أو تأثيراتهم هم على أنفسهم أيضًا، لانصياعهم لرغبات أو أمزجة توقعهم في مطبّات وسلبيات وارتباكات. المعالم الاجتماعية ظاهرةٌ في "نوّارة"، لأن هالة خليل منطلقةٌ في سردها حكاية الشابّة -الخادمة في فيلا يملكها سياسي ثري (محمود حميدة) منتمٍ إلى النظام المتكامل لمصر- من معاينة واقعية لأحوال الفقر وجغرافيته الممتدة من المكان إلى السلوك والعيش، ولأحوال الثراء المادي المرافق فقرًا إنسانيًّا في التواصل مع الآخرين. في حين أن هلكوت مصطفى يلتزم حكاية الحبّ تلك، وإنْ يُسلّط ضوءًا ما على البيئة الكردية العراقية بخفر وتواضع سينمائيين، من دون أن يُحوّل كاميراه السينمائية إلى أداة تحليل للاجتماع والسلوك، علمًا بأنه يمرّ، بشكل عابر، على وقائع العيش العراقي الأليم في ظلّ الحرب والفوضى والتشبيح.
من جهتها، تُبقي مي المصري كاميراها داخل السجن النسائي، لتتابع يوميات نساء عبر اشتغال سينمائي يرتكز على الصمت وحركة الجسد وملامح الوجه وتعبيراته الكثيرة والجميلة والآسرة أحيانًا. وهذا، بقدر ما يحمل في طيّاته جمالية بصرية يكاد يختفي في الأفلام الثلاثة الأخرى، المنصبّة بكلّيتها على حوارات يتخلّل بعضها صمت قليل، خصوصًا في "قبل زحمة الصيف". فالتأمل في أحوال الذات وأفعالها ومحيطها، في أفلام محمد خان وهالة خليل وهلكوت مصطفى، يُترجم غالبًا بكلام يعكس مرارة الحدث وتشعّباته وصداماته. في "قبل زحمة الصيف"، يغادر الطبيبان يحيى (ماجد الكدواني) وزوجته ماجدة (لانا مشتاق) القاهرة لتمضية وقت على شاطئ البحر إثر تعرّض الزوج لمضايقات قضائية جرّاء أعمال فاسدة في المشفى الخاصّ به. لقاؤهما مع المترجمة هالة (هنا شيحة)، القادمة إلى المكان نفسه لراحة ولملاقاة حبيب، هي المُطلقة ووالدة 3 أبناء، يزيد من شحنة التأمّل والسعي لتصفية الذات من شوائب الحياة، قبل أن يكون "الهروب" إلى المكان هذا نوعًا من مرآة تفضح مكنونات النفس والروح أيضًا. مع منة شلبي في دور "نوّارة"، تتجوّل هالة خليل في أزقة القاهرة وتناقضاتها، أيام "ثورة 25 يناير 2011"، للتدقيق في زوايا العيش اليومي، وكيفية التعامل الفردي والجماعي مع الانقلاب الحاصل حينها. أما هلكوت مصطفى، فتبدو كاميراه السينمائية على مسافة من كل شيء، مبتعدة عن أعماق درامية وإنسانية وجمالية للحكاية الأصلية.