الفيلم التونسي "على حلّة عيني"..أحوال بلد بعينيّ شابّة
العمل فاز بجائزة أفضل فيلم طويل في "مهرجان دبي السينمائي"
يُشكّل فيلم ليلى بوزيد، لحظة تأمّل بأحوال تونس عشية اندلاع "ثورة الياسمين". أحوال بلد ومجتمع غارقَين في خراب العيش اليومي.
يُشكّل "على حلّة عيني"، الفيلم الروائي الطويل الأول للتونسية ليلى بوزيد (1984) لحظة تأمّل بأحوال تونس عشية اندلاع "ثورة الياسمين" (17 ديسمبر 2010). أحوال بلد ومجتمع غارقَين في خراب العيش اليومي في الفقر والمهانة والقمع البوليسي والتخبّط الاجتماعي والاقتصادي، لكن الفيلم الفائز بجائزة "المهر العربي" كأفضل فيلم طويل في الدورة الـ 12 (9 ـ 16 ديسمبر 2015) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"، لن يكون مباشرًا في سرده مقتطفات من تلك الأحوال، ولن يتحوّل سياقه الدرامي، الحكائي إلى مرايا تعكس السياسي وتأثيراته السلبية على الناس والبيئات المجتمعية الصغيرة تحديدًا؛ لأنه يروي، بلغة سينمائية متماسكة، حكاية الصبيّة فرح (بيّة المظفّر)، الناجحة في سنتها الدراسية الأخيرة، بداية صيفٍ تونسيٍّ سيكون الأخير قبل سقوط نظام زين العابدين بن علي، و"افتتاح" مسار الحراك الشعبي العربي العفوي في مدن مختلفة.
فرح تعشق الغناء، وتحلم بدراسة الموسيقى، وتحبّ عازف العود برهان (منتصر العياري). لكن والدتها حياة (غالية بن علي) ترى نقيض طموحاتها، فتفرض عليها الانتساب إلى كلية الطبّ، بينما والدها موظّف يعمل في شركة بعيدة عن المدينة. المواجهة بين فرح ووالدتها متنوّعة الأشكال: هادئة أحيانًا، ومتوترة أحيانًا أخرى، وهي منطلقة أساسًا من النتائج السلبية والمأسوية للتجربة النضالية التي خاضتها الأم وزوجها أبناء جيلها أعوام الرداسة الجامعية، ما يدفع الأم إلى حماية ابنتها بقوسة أحيانًا، خوفًا عليها من الضياع في متاهة الحياة والدنيا والبلد، لكن الابنة البالغة من العمر 17 عامًا تغرق في أحياء المدينة ومتاهاتها وفضاءاتها المتنوّعة على طريقتها الخاصّة والبريئة والعفوية غالبًا، وتسعى إلى اكتشاف ذاتها عبر شعور انفعاليّ إزاء برهان والموسيقى والغناء، والتوغّل بالكلمات والألحان في أعماق الذات التونسية في صدامها الصامت مع ارتباك العيش، وقلق الحياة اليومية.
هذا اختصار مكثّف لحبكة درامية تبدو أشبه بسيرة ذاتية لصبيّة تبلغ مفصلاً أساسيًّا في مسارها الحياتي، علاقتها بوالدتها جزءٌ من علاقة الابنة الشابّة بمدينتها، أو بالأحرى امتداد لها، والداها مناضلان شيوعيان سابقان، ومحيطها المجتمعي منعزل في سكينته، أو غارقٌ في حياته الليلية، أو منزوٍ في المسافة الأبعد عن مفاعيل نظام سياسي يحكم بقبضة حديدية، ويتيح لأجهزة الأمن الفرص كلّها لتثبيت دعائمه بشتّى الوسائل، الأغنيات انعكاس لوقائع مكتوبة بعامية تونسية (كلمات: غسان عمامي، ألحان وتوزيع خيّام اللامي واضع الموسيقى التصويرية للفيلم أيضًا) ترفد نبض الناس المهمَّشين، وجوهر الأحياء المقيمة في شقاء الليل، صوت فرح صدى لهذين النبض والجوهر، والحفلات المسائية التي تُحييها رفقةَ برهان والمجموعة الشبابية منفذٌ لبوحٍ يتجاوز الآنيّ المرتبك إلى عمق الانفعال المجروح في حبّ وصداقة وخيانات وخيبات.
السرد مرتكز على لغة بسيطة وحيّة، هي أساس العيش التونسي اليومي بالنسبة إلى شباب ينتهون من دراسة مدرسية، ويقفون على عتبة مرحلة أخرى من عمر نضر، لكنه مُصاب بقسوة التسلّط والقمع، ليلى بوزيد (ابنة المخرج التونسي نوري بوزيد) تتحايل سينمائيًّا على المآزق العامّة عبر التوغّل أكثر فأكثر في دقائق يوميات فرح وعلاقاتها بأمّها وعائلتها، كما برفاقها في الفرقة الموسيقية المؤلّفة من شباب ممثّلين وموسيقيين على حدّ سواء: إيناس (دينا عبد الواحد) متخصّصة بالـ "كيبورد" والموسيقى الإلكترونية، وسامي (مروان سلطانة) عازف الباص الكهربائيّ، وسكا (يوسف سلطانة) عازف الـ "درامز"، بالإضافة إليها وإلى برهان طبعًا، شباب في مقتبل العمر يجعلون الغناء والعزف الموسيقيّ أداتهم الوحيدة لمواجهة خرابٍ أو انكسار أو خوف، أو لتعبيرٍ عن انفعال أو شوق أو بوح، ويضعون أعمارهم الطرية على حافة الهاوية في مقارعة الوحوش المختبئة في جحورها، والتي يخرج منها بعضها، لإلقاء القبض على فرح وسوقها إلى تحقيقات بوليسية قامعة.
قوة السيناريو كامنةٌ في تحرّره المطلق من كل خطابية جوفاء، وفي التزامه مسارًا دراميًّا يُضيء جوانب من الحالة العامّة للبلد، عبر عيني فرح وتمرّدها وصدامها مع والدتها ومحيطها، قوّة السيناريو كامنةٌ أيضًا في تماسك منطقي لتطوّر الأحداث ومساراتها المتشعّبة من فرح إلى البلد وناسه، ومن علاقتها بذاتها إلى ارتباطها بمحيطها، التوازن بين سرد حكايتها داخل بيتها العائلي في ظلّ غياب أبٍ مستسلم لعزلته بعد صخب نضالي شبابيّ قديم، وعالمها الخارجيّ المسوّر بالغناء والتعبير والتمتّع بالجسد كما بالروح، هو توزان في طرح أسئلة الهوية والانتماء والراهن الشبابيّ، عبر توغّل بصريّ، يعتمد على الإضاءة والكادرات وحركة الكاميرا والتقطيع/ التوليف، في مناحٍ مختلفة لأفراد وجماعات، علمًا أن خللاً ما ينتاب آلية تحقيق مشهد أو لقطة (داخل غرفة التحقيق مثلاً)، أو يُصيب شيئًا من مسار الحكاية (لقاء الأم حياة عشيقها السابق والعامل في خدمة الأمن لإنقاذ ابنتها من التوقيف، وهو مفتعل دراميًّا إلى حدّ كبير).
ملاحظات كهذه لا تُسقِط عن البناء الفيلمي براعته في متانة اشتغالاته المختلفة، خصوصًا على مستويي المعالجة الدرامية وإدارة الممثلين. فـ "على حلّة عيني" (بالإضافة إلى خروجه من عباءة الأب وعالمه السينمائيّ) يعتمد حوارًا سلسًا وبسيطًا، محمّلًا إياه في الوقت نفسه قراءة عميقة للبلد وناسه، من خلال شخصيات شبابية مفعمة بحيوية الفنّ، وبخيبة الاصطدامات المتنوّعة بالسلطة، بمختلف أشكالها والأنواع.
aXA6IDMuMTQ3Ljg2LjI0NiA= جزيرة ام اند امز