منذ انقطعت علاقة السماء بالأرض بموت الرسول، صلى الله عليه وسلم، واستكمال الأنوار الإلهية ونحن في سجال مع النص التأسيسي.
كل تناقض وتضاد نتماسّه مع الدين، وكل عنف وكراهية وكل عَنَت ومَعرّة وفُرقة وصراع كان في التجسيد للمثال الأعلى التي هي لحظة التطبيق والفهم البشري للفيوضات الربانية وليس في ذات وصميم الدين المثال النموذجي الطهراني المفارق، ففي حال من يُعتبرون كفارًا ومشركين الأمر ممانعة أصلية للمتنزَّل الإلهي صراحة، لكنني هنا أتحدث عن المؤمنين بالوحي والدين وطبيعة تواصلهم معهما.
منذ انقطعت علاقة السماء بالأرض بموت الرسول، صلى الله عليه وسلم، واستكمال الأنوار الإلهية ونحن في سجال مع النص التأسيسي في توجيهه ودلالاته، وليس ذلك خطيئة، فتلك طبيعة العقل البشري في التعاطي مع الأشياء الطبيعية والما ورائية بما في ذلك الدين، حيث تعدُّد وتضاد الفهوم والإدراك، إذ من المحال تطابق الفهوم في تناول قضية أو نص، نظرًا إلى تعدد المنطلقات في الفهم والتفسير، ولا تثريب في ذلك، فلا يمكن الإجماع على ذات التفسير والوعي.
لم يكن مأزقنا التاريخي والديني في تشعب الرأي تجاه فهم الدين بقدر ما كان في حالة ومتلازمة الرفض المتبادَل الذي يصل إلى مرحلة القسر للمختلف من أجل حمله على الفهم والمدرَك على حساب إقصاء فهمه ومدركه الذاتي، إضافة إلى توهم كل تيار وفرقة أنه يمثل الدين تماهيًّا وتماسًّا مع مراده ومقاصده، وهنا المأزق والوهم،
من المهم معرفة الدين في حالتيه السماوية اللاهوتية والأرضية البشرية حتى يتسنى التعاطي والوعي النسبي بالدين، وليتم إدراك أننا ما بين دين ورأي في الدين، وأن الدين الذي نتفاعل معه هو رأي في الدين فحسب وليس الدين، ذلك أن التماسّ بالدين ومقاصده من المحال بحكم تعدد الفهوم والإدراكات وقصور العقل البشري عن القبض والتماهي مع مراد الشارع تمامًا، مما يعني أن أي مذهب ديني عقائدي أو فقهي وأي تفسير وشرح ما هو إلا منتج ومعطًى بشري وليس غير الوحي الذي يجسد الحقيقة والمثال الأعلى.
الدين لحظتان: الأولى لحظة تنزُّل الفيوضات السماوية التي تحمل الرسالة الدينية بصفائها وطهرانيتها من لدن المشرِّع قبل تماسها مع الأرض والتفاعل البشري معها تطبيقًا وفهمًا وتعبُّدًا، والثانية هي لحظتنا المموهة بالفهم والاستيعاب البشري المنقوص لحظة مواجهة العقل النسبي للمثال والنموذج الكامل "الدين كما نزل من عند الله"، وهنا يأخذ المقدس منحى مفارقًا للمراد الإلهي حيث تعدد الفهوم وتباين المدارس الفقهية والعقائدية في إدراك واستلهام النص التأسيسي، نظرًا إلى خضوعه للآلة الذهنية البشرية المنقوصة المحكومة بظروف ومعطيات ومقدمات متباينة في ما بينها ولعجزها عن التماس في مقاصد المشرع وإن زعمت ذلك.
الذي أريد أن أدرج ناحيته ونحن نعيش في زمن غلواء التنابذ والكراهية الدينية التي تصل إلى الاحتراب والطغيان، أن جميع الخطابات الدينية العقائدية والفقهية والفكرية تمارس الاستبداد ورغبوية احتكار التماهي بالدين ولا تدرك أنها تتصارع في لحظة التطبيق والتجسيد النسبي للدين الذي لا يحتمل التوازي بالدين بنقائه ولحظته المقدسة، لحظة المثال والنموذج السماوي النقي ما قبل التواصل مع الأرض.
ذلك أن الإسلام ليس هوية ثابتة كاملة نموذجية نهائية، كما أنه لا وجود لإسلام قائم بذاته يمكن لأحد أن يدّعي إدراكه والنطق باسمه، فلا يمكن لرؤية أن تتساوى بالإسلام أو تستغرقه وتشتمله.
المذاهب والتيارات الإسلامية حقيقةً تتصارع في الإسلام التاريخي "التجسيدي" الذي يحتمل ويحمل قابلية الاجتهاد والرأي والبحث، كما الخطل والخطأ، وليس لأحد زعم صوابية ترجمته للإسلام وأنها الإسلام الأصل قبل التجسيد.
نحن بحاجة إلى استعادة علاقتنا بالدين وطريقة التواصل معه حتى لا نظل في صراع عبثي تدميري وأن ندرك أن الإسلام ليس واحدًا، وأنه ترجمات وكلها تشتمل الصواب وخلافه، وأن هذه الترجمات تتآزر وتتكامل ولا تتنابذ وتتناقض كما يتوهم التقليديون، وأعني بأن الإسلام ليس واحدًا وأنه عدة إسلامات وكلها تشارف الصوابية أن التعاطي مع النص والتشريع الديني يخضع للفهم والاجتهاد ووجهات النظر، كما استحالة توحيد مخرجات وجهات النظر والاجتهادات.
وذلك ما يدعو في النهاية إلى التعاذر والتواضع واحترام رأي المختلف مهما كان مباينًا أو مضادًا.
أكثر من ينشر الضلال والجهل بالدين ومن يشوه جناب الدين هم فئة رجال الدين من خلال جهلهم بحتمية تفارق وتنائي العقول في آلية تناول التشريع وفهمه وتوجيهه، وذلك نتاج جهلهم استحالة الإجماع على منهجية موحدة في استلهام النص التأسيسي والتشريعات المقدسة وجنوحهم ناحية دعاوى قدسية رؤاهم ويقينية تماسّها مع الإسلام الأصل لا الصورة والترجمة، وعادةً ما يكون خلف رجال الدين في استبدادهم براجماتية القوة والمنفعة السياسية والتي هي القوة الضاربة الخفية لرجال الدين والأيديولوجيات الدينية عموما.
(بالمختصر)
ما لم يتم التفريق بين الدين والرأي في الدين، والدين بصفائه قبل التجسيد ولحظة التجسيد، فإن كل فئة ستظل تدّعي أنها الإسلام والحقيقة وما سواها ضالٌّ أو مبتدع أو كافر، وذلك ما حدث ويحدث بين المذاهب والنِّحل الإسلامية. رجال الدين المُحاكون هم رأس الحربة في التنابذ والكراهية المذهبية خصوصًا مع وجود الدعم السياسي الذي يتقوى بالمقدس لأجندته السياسية، لنؤمن أن الإسلام الطهراني مثال متعالٍ ليس من الممكن توشحه والتطابق مع مقاصده كما شاءها المشرِّع، وحسبنا أن ندرك أننا متعبَّدون بمحاولة مشارفته والاقتراب من غائياته "فاتقوا الله ما استطعتم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة