للأمن وظائفه التى لا يستغنى عنها أى مجتمع، وللسياسة أدوارها التى لا تستقيم بغيرها أية دولة.
للأمن وظائفه التى لا يستغنى عنها أى مجتمع، وللسياسة أدوارها التى لا تستقيم بغيرها أية دولة.
الخلط بين الأمنى والسياسى يفضى إلى تشوه المجال العام، وتقويض أى تطلعات لبناء دولة حديثة.
لابد أن تكون الخطوط فاصلة، والقواعد معلنة، وإلا فإن الشرعية الدستورية تضرب فى صميم وجودها.
فى الخلط مزالق لا يمكن تجنبها، أخطرها نشوء مراكز قوى جديدة تحكم دون أن تحاسب، كأنها سلطة فوق كل السلطات، لا يردعها قانون، ولا يحكمها دستور.
هناك خشية حقيقية الآن من أن نكون قد تجاوزنا الخلط وأخطاره إلى الفوضى وعواقبها.
لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث كله يفلت بعض الكلام العام إلى التنابز بالأجهزة الأمنية بين جماعات متصارعة على الحصص والأنصبة فى البرلمان الجديد.
كأن من الطبيعى أن يكون خلف كل ائتلاف جهاز أمنى ووراء كل انشقاق جهاز أمنى آخر.
الاتهامات المتبادلة على شاشات الفضائيات فى أزمة ائتلاف «دعم مصر» تؤشر على صراعات أجهزة أمنية فوق كل طاقة احتمال لأية دولة محترمة.
نائب عن حزب عريق يقول أمام الفضائيات إنه انضم لـ«دعم مصر» بطلب من «أمن الدولة».
ومعلومات متواترة لحضور مباشر لشخصيات أمنية فى مداولات إنشاء ائتلاف الأغلبية البرلمانية.
وشهادات لقيادات حزبية عن تدخلات أمنية فى القوائم والمرشحين للمجلس النيابى فاقت كل ما هو معتاد فى أى انتخابات سابقة.
الكلام عن الأمن فاق الكلام فى السياسة.
باختلاف الحقب السياسية لم يحدث فى أى وقت أن تبدت الصراعات الأمنية على هذا النحو السافر عبر وكلاء شبه معتمدين.
هذه كارثة بأى معنى سياسى تأخذ من مؤسسات الدولة هيبتها واحترامها.
لا يمكن أن تتأسس هيبة على فوضى ولا احترام على ابتذال.
إذا لم تحسم الفوضى الأمنية بكل حزم فإننا أمام انكشاف لا مثيل له وفوضى لا نهاية لها.
يعنى بالضبط أن الدولة لا تقف على أرضية صلبة ومؤسساتها غير مرشحة لأى تماسك.
بأى حساب جدى هذه أوضاع لا تستقيم ولا تستقر ولا تبقى.
تجفيف الحياة السياسية إنذار خطر أول.
وتجاوز الطبيعة الأمنية إنذار خطر ثان.
الإنذاران وجهان لانكشاف واحد فى بنية الدولة ومؤسساتها.
عندما تغيب السياسة ووسائلها يتقدم الأمن لملء الفراغ.
أية سلطة تعنى انحيازات وخيارات وسياسات وبرامج وطبقة سياسية قادرة على حملها.
بطبيعة أدواره فإن الأمن يتحرك تحت غطاء سياسى ما.
إذا غاب الغطاء فسوف يصنع السياسة بالطريقة التى يراها.
هذا ما حدث بالضبط بعد (٣٠) يونيو.
الحدث بذاته تعبير عن حيوية المجتمع وقدرة قواه على منع أى انهيار محتمل فى بنية الدولة.
غير أن الحيوية سرعان ما تقلصت والآمال العريضة تعرضت لانتكاسات فادحة.
تغول الأمن على حساب السياسة نقطة الضعف القاتلة فى اللعبة كلها.
انهارت «جبهة الإنقاذ» التى كانت العباءة السياسية الواسعة التى وقفت تحتها القوى المدنية المناهضة لجماعة الإخوان المسلمين.
كان انهيارها المبكر تعبيرا صريحا عن أزمة مكوناتها وسوء تقديراتها السياسية ورغبة أطراف خارجها فى إخلاء المسرح السياسى كله.
فى ظل أوضاع مضطربة وحرب مفتوحة مع الإرهاب بدا لبعض الأمن أن الوقت قد حان لتسوية الحسابات مع ثورة «يناير» ودمغها بكل نقيصة واغتيال المحسوبين عليها سياسيا.
الانتهاكات تجاوزت كل قيد قانونى واعتبار أخلاقى دون أدنى حساب، كأن هناك من يحرض على الانتهاك ويحمى المنتهكين.
الاستخلاص الأخير أفضى إلى تلويث المجال العام بطريقة غير مسبوقة وانهيار سمعة الإعلام المصرى بصورة مهينة.
التفلت وصل رذاذه أخيرا إلى البيت الأمنى من بعض المحسوبين عليه.
عندما تفتقد الحدود الدنيا من القواعد القانونية، فكل شىء مباح والضرب تحت الحزام يطال الجميع.
فى الحملة على «يناير» برز تحالف شبه معلن بين أشباح الماضى الذى يطلب أن يعود وبعض الأمن الذى يطلب الانتقام.
كان ذلك خللا فادحا فى الشرعية التى تستند إلى «يناير» و«يونيو»، وأن الثانية تصويب للأولى لا انقضاض عليها.
بدا هذا التحالف تهديدا لنظام الحكم قبل غيره وبعض أنيابه نالت من الرئاسة نفسها.
قبل فترة اشتكى أحد مقربى الرئيس من تجاوزات فادحة بحقه على إحدى الفضائيات نالت من شرفه وكرامته.
سأله الإذن أن يتوجه إلى النائب العام ببلاغ فهو لا يستطيع رغم منصبه النافذ أن يرفع رأسه أمام أسرته.
رد الرئيس عليه: «ليس من حقك بحكم موقعك أن تتقدم بمثل هذا البلاغ فسوف يقال إنه باسمى».
أريد أن أقول بوضوح أن لا حصانة لأحد أيا كانت مكانته إذا كانت القاعدة هى التفلت.
الأخطر أن أحدا لم يتعلم شيئا من درس «يناير».
بعض الأمن يتصور أنه استعاد صولجانه على حساب شعبه وأن الدولة البوليسية التى سقطت عادت من جديد.
وبعض الماضى يتصور أنه استعاد كامل سطوته على الاقتصاد المصرى، كأنه لم تقم ثورة ضده.
إنكار «يناير» هو جوهر تحالف مراكز القوى الجديدة.
القضية الحقيقية تتجاوز انفلات هنا أو هناك إلى ضرورة إصلاح الجهاز الأمنى كله.
بمعنى آخر فإن رد اعتبار الوظيفة الأمنية وتأكيد قدرتها على الوفاء بمهامها فى حفظ الأمن السياسى يعنى قبل أى شىء آخر رد اعتبار السياسة وتوسيع المجال العام والتزام القواعد الدستورية فى العلاقة بين مؤسسات الدولة.
إذا لم يكن الدستور محترما فلا شىء آخر فى هذا البلد سوف يحظى باحترام.
القواعد الدستورية لابد أن تحكم العلاقة مع جماعات المال التى تغولت بعضها على العمل البرلمانى وتكاد تضع البلد أمام اضطرابات اجتماعية لا يمكن استبعادها.
القواعد قبل وبعد كل شىء.
أخطر الأسئلة التى تطرح نفسها على رأى عام قلق من ظواهر خطيرة تتبدى أمامه:
هل هناك صلة بين التغييرات الواسعة فى رئاسة «الأمن الوطنى» وصراعات الأجهزة التى أفلتت عن كل قيد فى الانتخابات النيابية وما بعدها؟
أين كانت الأخطاء المنسوبة بالضبط إلى الأمن السياسى التى أساءت إلى صورة الحكم كله؟
أين حدود التداخل بين بعض الأمن وبعض الإعلام؟
ما حدود الالتزام الرئاسى الجديد بترسيخ سيادة القانون وإعلاء قيم العدالة ومحاسبة كل من أخطأ وتجاوز فى أى مؤسسة فى تغيير طبيعة اللعبة كلها؟
لم يعد من الممكن إنكار الصراعات الأمنية ولا الصمت على تفلتاتها، فالأمن بمعناه الحقيقى أول المضارين منها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة