ولد ألكسندر بوشكين في العام 1799، وقتل في المبارزة المشؤومة بعد ذلك بثمانية وثلاثين عاماً... وكان في ذلك الحين، في قمة عطائه وقوته
يوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1836، تلقى شاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين نسخة من رسالة مكتوبة باللغة الفرنسية، «مجهولة» المصدر والكاتب، تقول ما معناه ان «أعيان ونبلاء أخوية الأزواج المخدوعين قد عيّنت، وبالاجماع، السيد ألكسندر بوشكين، زعيماً أول للأخوية». ولئن كانت الرسالة غفلة من التوقيع، فإن بوشكين كان يعرف هوية مرسلها: انه البارون جاكوب فان هكرين، سفير هولندا في بطرسبورغ... وهو الأب بالتبني للبارون جورج دانتيس، الذي كان لا يتوقف عن ملاحقة ناتاليا غونتشاروفا زوجة بوشكين، بعناد ويغازلها.
على الفور ارسل بوشكين الى السفير، رسالة بالفرنسية ايضاً، حافلة بالسباب، ويقول فيها: «انك، يا سيدي، مثل أي داعر عجوز مهووس، ستواصل مطاردة زوجتي في كل زاوية لكي تحدثها عن غرام ابنك السفاح بها». أمام هذا الرد كان لا بد من المبارزة بين الشاعر والعاشق الولهان... ووقعت الواقعة بالفعل يوم 27 كانون الثاني (يناير) من العام التالي.
وكان فيها القضاء على بوشكين بعدما أصيب بجراح مميتة. اما غريمه - وكان فرنسياً - فقد أصيب فقط بجرح طفيف في ذراعه. وهذه الحكاية تستكمل عادة بأن ناتاليا صارت بعد ذلك عشيقة قيصر روسيا، لا عشيقة الفتى الفرنسي.
ويضيف البعض بأنها ربما كانت عشيقة القيصر حتى قبل مقتل بوشكين.
غير ان ما يهمنا هنا من هذه الحكاية، هو ان الرسائل المتبادلة في صددها كتبت بالفرنسية، فهل كان هذا لأن غريم بوشكين كان فرنسياً؟
ابداً وذلك بكل بساطة لأن اللغة الفرنسية كانت في روسيا ذلك الحين، لغة الطبقة الراقية وكبار المثقفين في المجتمع، يشهد على هذا كتاب صدر في باريس قبل عقد من السنين ونيّف، يضم عدداً كبيراً من رسائل كتبها بوشكين خلال سنوات حياته القصيرة، بالفرنسية مباشرة، مع ان معظمها كان موجهاً الى معارف روس...
> يبلغ عدد هذه الرسائل في الكتاب اكثر من 180 رسالة، تأتي لتؤكد ما كان ليو تولستوي نفسه أكده في صفحات روايته «الحرب والسلام» من أن أهل المجتمع الروسي، كانوا وحتى قبل وصول نابوليون في حملته العسكرية الفاشلة الى اطراف موسكو، يتحدثون بين بعضهم بعضاً بـ «تلك الفرنسية الرهيفة التي كان جدودنا يستخدمونها ليس فقط في حديثهم، بل في تفكيرهم ايضاً». أما في مجال الأدب، فإن تولستوي كان يرى أن «الأسباب التي أدت الى تأخير تقدم ادبنا الروسي الى الأمام، تعتبر عديدة وفي مقدمها الاستخدام المعمّم للغة الفرنسية واحتقار اللغة الروسية». ومع هذا يذكر لبوشكين انه أولى كل اهتمامه، في أدبه وأشعاره، للغة الروسية منمقاً اياها، محسناً ألفاظها. غير ان هذا لم يمنعه من ان يكتب عدداً كبيراً من الرسائل باللغة التي كان يراها أسهل في التخاطب وأقرب الى الحميمية الفرنسية.
> بالنسبة الى بوشكين اذاً، لا يبدو استخدام الفرنسية في التراسل، ظرفياً. بل يبدو جزءاً اساسياً من طبيعته، ومن هنا فإن إطلالة على هذه الرسائل، ترينا كم انه عبّر فيها، عن أمور عدة - واحياناً شديدة الخصوصية - تشغل باله، في الأدب والفن كما في الحياة اليومية ايضاً. بل لا بد لنا من ملاحظة أن جزءاً كبيراً من هذه الرسائل يتعلق بشؤونه الغرامية، هو الذي كان يقول عن ناتاليا غونتشاروفا، التي تزوجها أخيراً وهي في السادسة عشرة فيما كان هو في الثلاثين، انها تحمل الرقم 113 بين النساء اللواتي أحب في حياته.
> اذاً، بفرنسية أنيقة ومسهبة كتب بوشكين رسائل حول النساء وإليهن ... ولكن ايضاً الى رجال السلطة، وصولاً الى القيصر نفسه، والى اصدقائه وحتى الى اشخاص لم يكن يعرفهم... بما في ذلك في نهاية الأمر تلك الرسالة التي اوصلته الى نهايته. في مجمل رسائله، كان يبدو دائماً، مزاج بوشكين مطلاً حاسماً، وكان يبرع في استخدام الكناية والرمز، وفي استنباط تعابير مدهشة، يتسم معظمها بإشارات جنسية كان يبدو عليه أنه غير قادر على التعبير عنها باللغة الروسية على الاطلاق. وفي شكل خاص كانت الفرنسية تسعفه في مجال الحديث عن المسرح، لا سيما في مجال الحديث عن الكاتب التراجيدي الفرنسي كورناي. اذ ها هو يقول في واحدة من الرسائل: «ان عباقرة التراجيديا الحقيقيين لم يهتموا ابداً بمسألة الايهام بالواقع، أو بأن تبدو مسرحياتهم قابلة لأن تصدق. خذوا كورناي مثلاً وانظروا كيف حرك شخصية السيد في المسرحية التي تحمل اسمه... وراقبوا كيف ان هذا الكاتب عرف كيف يراكم في ساعتين، احداثاً تدور خلال أربعة أشهر».
> وفي المجال العائلي يستخدم بوشكين الفرنسية، مثلاً، للإعلان عن ولادة ابنته الاولى، قائلاً للمرسل اليه: «تصوروا ان زوجتي كانت من الخرق بحيث ولدت نسخة طبق الأصل مني. والحال ان هذا يرديني مهاوي اليأس على رغم سروري التام»... وفي رسالة أكثر حزناً يقول: «لا نؤمنن بالأمل. فالأمل ليس سوى امرأة حسناء لا تتوقف عن معاملتنا وكأننا مجرد ازواج عجائز». وهو يكتب الى امرأة أحبها: «وهاك ما أنت عليه.. وما انتن عليه جميعاً. وهاك كيف ان النساء والعواطف الكبرى هي اكثر شيء أخشاه في هذا العالم». وفي رسالة يوجهها الى كارولينا سوبانسكي، اخت مدام هانسكا يكتب: «عاجلاً أو آجلاً، سأجدني هاجراً كل شيء لآتي وأخرّ عند قدميك». ويرى محرر كتاب «رسائل بالفرنسية» لبوشكين، برنار كرايز، انه لو قيض لالكسندر بوشكين ان يتزوج من كارولينا كما كان يأمل، لأصبح عديلاً لبلزاك..
> ويؤكد كرايز، في تقديمه الكتاب، ان بوشكين الذي لم يبتعد من روسيا أبداً.. بل لم يبتعد من «العاصمتين» - سان بطرسبورغ وموسكو - إلا حين يصدر أمر بنفيه خارج هاتين المدينتين، كان يعيش ألفة مدهشة مع الأدب الفرنسي، غير مكتفٍ بأن يكتب بالفرنسية رسائله أو ملاحظات عدة تتعلق بحياته اليومية. بل ان كرايز يؤكد ان ألفة بوشكين مع الأدب الفرنسي، قديمه وحديثه - في ذلك الحين - كانت الألفة الوحيدة التي عاشها حقاً، هو الذي كان يشعر غربته تملأ حياته عن كل شيء تقريباً باستثناء الشعر والنساء. ومن هنا كان لا يتوقف عن قراءة الأدب الفرنسي، لا سيما أدب رابليه بالفرنسية طبعاً، ويحلم - كما يبدو - بيوم يكتب فيه عملاً ادبياً كبيراً بالفرنسية.
> ومع هذا، على رغم كل هذا الإهتمام باللغة الفرنسية وبالآداب الفرنسية، يمكن القول، مع غوغول ودوستويفسكي.. وكذلك مع فلاديمير نابوكوف في القرن العشرين، ان بوشكين كان أول شاعر روسي - أي كتب باللغة الروسية تحديداً - حقيقي في تاريخ هذه الأمة. انه شاعر الروح الروسية وكاتبها. ومن هنا لم يكن غريباً ان يقال له في حياته ان «اسمك صار ملكاً للشعب الروسي»... ولم يكن غريباً - كما يقول برنار كرايز، ان يقول الطبيب الجراح وهو يحاول انقاذ حياته، من دون جدوى، بعد اصابته بجروح المبارزة القاتلة: «انني لعلى استعداد لأن اضحي بأي شيء وبكل شيء، لأتمكن من انقاذ شاعر روسيا الاول». طبعاً لم يتمكن الجراح من انقاذه. لكن بوشكين دخل منذ تلك اللحظة عالم الأسطورة القومية، من دون ان يغضب أي روسي ازاء استعماله الفرنسية في كل مرة وجد فيها الروسية غير كافية للتعبير عنه.
> ولد ألكسندر بوشكين في العام 1799، وقتل في المبارزة المشؤومة بعد ذلك بثمانية وثلاثين عاماً... وكان في ذلك الحين، في قمة عطائه وقوته. كان قد أبدع للروس أدبهم الكبير، شعراً، في مقابل غوغول الذي سيبدع لذلك الشعب نثره الروائي العظيم. وبوشكين، على اي حال، لم يكتب الشعر والرسائل فقط، بل انه خاض في انواع كتابية عدة، من المسرح الى الرواية الى القصائد الطويلة، الى الاوبرات... وهو كان يكتب بكثافة وغزارة وكأنه يحس بأن سنواته معدودة، ومن أشهر أعماله «ابنة الكابتن» و «اوجين اوينغن» و «بنت الكبة» و «بوريس غودونوف» و «ليال مصرية» و «موزارت وسالييري» و «الغجر» وغيرها.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة