فكيف ويأية عبقرية اصبح التناسب طرديا بين التقدم الشكلى القائم على المحاكاة وبين ارتفاع نسبة الامية، التى شملت بفائضها حتى الاكاديميين
حين نقرأ التقارير الدولية والاقليمية التى تصدر عن مختلف الهيئات والمؤسسات الدولية وما تقدمه من توصيف للمشهد العربى من مختلف زواياه الثقافية والتعليمية والصحية نشعر بأن هذه التقارير أشبه بأشعة x الكاشفة عن الخلل البنيوى للنسيج القومى برمّته وانها تشخيص لأنيميا متعددة الأبعاد، فالعافية ليست حكرا على الجسد، انها ايضا تشخيص يليق بكيانات وسياقات اجتماعية وسياسية، وخلاصة تلك التقارير ان الانيميا القومية تشمل مناحى الحياة كلها فى العالم العربي، بمعزل عن التفاوت فى منسوب الدخل القومي، فالاغنياء يعانون ايضا من انيميا قد تكون سياسية او ثقافية، لأن المال ليس مثقفا على الدوام، وقد يكون اميّا او ممولا للعنف او تبديدا للطاقة على طريقة الشاعر الذى حذّر من الفراغ والمال والجدّة واعتبر هذه الاقانيم بمثابة فساد مجتمعى لا يسلم منه حتى الملح ! ولأن الاقتصاديين نادرا ما يهتمون بالجذور المعرفية للأزمات والجوع وسائر محاصيل الشقاء نضطر الى الاستعانة حتى بالأساطير لتحليل ظواهر عصيّة على التفكيك ومنها اسطورة ميداس الاغريقى الذى تحوّل كل ما يلامسه الى ذهب، ومقابل ميداس الاسطورى هناك ميداس العربى الذى أفرزه التاريخ لا الاساطير، انه منذ عقود يلامس الذهب فيحوله الى صدأ او حديد او رمل، لأن معجزته العجيبة هى انه حوّل الفائض الى مديونيات والتكامل الى تآكل وتواكل، وبالتالى حول النافعة الى ضارة وليس العكس بحيث اصبح امتيازه الجيوبوليتيكى عبئا على كاهله، وتعداده الديموغرافى الذى تجاوز الثلث مليار الى حمولة لا يقوى عليها، رغم ان لديه فى باطن الارض وعلى سطحها ما يكفى ضعف عدد سكانه، اذا توفر قباطنة لم يعبث ببوصلتهم قرصان او سمسار لاجئان .
فكيف ويأية عبقرية اصبح التناسب طرديا بين التقدم الشكلى القائم على المحاكاة وبين ارتفاع نسبة الامية، التى شملت بفائضها حتى الاكاديميين، انه مشهد لا يخلو من سوريالية وكان اولى بالأدب والمسرح خاصة ان يتولى التعبير عن هذا اللامعقول والعبث السياسى لكن المعادلة معكوسة، فالأدب يحافظ على وقاره التقليدى وكأنه فى كوكب آخر اما السياسة وافرازاتها فهى التى تولت المهمة .
ما لا تقوله التقارير عن الانيميا العربية هو مساحة خضراء من المسكوت عنه، انها مساحة الممكن والهاجع فى باطن الارض والناس، لكن قدرنا ان تهب اعاصير ورياح مثقلة بالسموم كل عقد من الزمن لتجهض البراعم والممكنات، ولو ان الدليل صدق اهله سواء كان سياسيا او مثقفا او ناشطا لما كان الحال على ما هو عليه، وكأن الزكام هذه المرة وانفلونزا الانتلجنسيا حالت دون ان تشم النخب رائحة ما هو قادم، وليس المطلوب منها ان تكون زرقاء يمامة كى ترى ما لا يرى الآخرون، لكنها ارتهنت منذ عقود لما يتخطى دورها التنويرى التاريخي، وذهبت الى ابعد مما وصفه غرامشى حين تحدث عن المثقفين والفئات والطبقات التى يدافعون عن مصالحها، النخب العربية منها من عرض للايجار فى واجهات الميديا، ومنها من أغمض عينيه وقال ليأت من بعدى الطوفان ناسيا ان الطوفان حين يأتى سيبعثر عظامه وعظام اسلافه فى القبور وان هذه اللامبالاة وهذا الرهان الشمشونى الاخرق سيكون سببا لشقاء حفيده العاشر.
ان المريض العربى بخلاف المريض الانجليزى كما ورد فى فيلم يحمل هذا الاسم، المريض العربى تتراكم حول سريره الوصفات الطبية، وهى على الاغلب مُتناقضة فى التشخيص لكن الخزانة التى بجوار سريره تخلو من علبة دواء واحدة، فمن يثرثرون عن الفقر على مدار الساعة لا يقولون للفقراء لماذا هم فقراء، ووجد من يثرثرون عن الفساد المتعدد الرءوس مخرجا يعفيهم من عبء المسئولية، هو التعامل مع الفساد باعتباره مجهول النسب او انه ظاهرة كونية كالبراكين والزلازل لهذا يتحدثون عن الفساد بمعزل عن الفاسدين وعن الدولة الفاشلة بمعزل عن اسباب فشلها وتفريطها.
ما اكثر الافعال المبنية للمجهول فى خطابنا المعاصر وكذلك نواب الفاعل، وحين تضع النخبة سلامتها فوق كل اعتبار ينتهى الامر الى حكاية جحا الشهيرة حين قال ما يهمنى فقط هو سلامة رأسي، لكن رأسه فى نهاية الحكاية لم يسلم!
ولكى تعوض النخب العاطلة عن دورها وما تعانيه من نقصان تلجأ الى امتطاء موجات وحراكات شعبية وتمارس نمطا من التقويل وهو بخلاف التأويل، وفالتأويل يأتى من داخل النصوص أما التقويل فهو ادعاء ما ليس فى الخطاب، هكذا سارع العشرات من المثقفين قبل خمسة اعوام الى الزّعم بأنهم توقعوا الاحداث التى عصفت بدول وجيوش ولم تسلم منها المتاحف والاطلال، والحقيقة عكس ذلك تماما لأنهم كانوا الاكثر اندهاشا مما حدث، ومنهم من اصابته الحيرة بالصمت .
ان كتابا واحدا من طراز سادة الفقر لهانكوك يكفى للاجابة على اهم سؤالين فى حياتنا الآن، وهما لماذا كل هذا الفقر والجهل ولماذا كل هذا الانقسام الذى حوّل امّة الى كسور عشرية طائفية ومذهبية ! لكن ما سخر منه هانكوك قد يراه الوكلاء وسماسرة الدّم وصفة نموذجية وهو أن خير طريقة للتخلص من الفقر هى ابادة الفقراء، وأفضل سبيل لشفاء المرضى هو حقنهم بالسم!
ان ما كتب عربيا حتى الآن خارج المسموح به نشرا ورقابة يراوح على تخوم حقائق يبصرها الأعمى ويصغى الى ضجيج ما تعج به حتى الأصمّ، لكن فقه التواطؤ كان منذ البدء سلم النجاة لمن آثروا السلامة او ارتدوا جلد الحرباء او تتلمذوا على الببغاء ليرددوا صدى ما يسمعون او يؤمرون به.
ذات يوم استشعر الشاعر العربى نصر بن سيّار خطرا قادما قد يهلك دولة، فأرسل قصيدة الى الخليفة اشبه ببرقية عاجلة حتى لو كانت بواسطة حمام او غراب زاجل يقول له:
أرى خـــــلل الرماد وميض جمـــر
ويوشـــك أن يكون له ضــــرام
وميض الجمر تحت الرّماد لا يراه اليوم غير من لم يفقدوا الرّجاء وظلّوا على قيد ذاكرتهم وهويتهم وهم على الأغلب جنود مجهولون فى شتى مناحى حياتنا، لهذا لم تصل متوالية السقوط والتفكيك الى نهاياتها، وما زال هناك كما قال شكسبير بقية من الرّحيق، او كما قال الشاعر الجزائرى مالك حداد اثناء احتلال بلاده وهو ان من يستحق العسل يجب ان تكون له فضائل النخل .
ومن يستحق الحرية يجب ان يكون قد رضعها محررة من ثقافة القطعنة والارتهان لقبيلة او طائفة او عرق !!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة