قضيت نهار الأربعاء قبل الماضى فى المَجمَع اللغوى احتفالاً بيوم اللغة العربية، رحت أتلفت ورائى بين الحين والآخر لأحصى عدد الجالسين.
قضيت نهار الأربعاء قبل الماضى فى المَجمَع اللغوى احتفالاً بيوم اللغة العربية، رحت أتلفت ورائى بين الحين والآخر لأحصى عدد الجالسين. كان ما يزيد على نصف المقاعد خاويا، لا حضور رسمى يُذكر ولا مَحَلَ لدهشة أو عتاب، فلغة ضائعة على ألسنة مسئولى الدولة لا يُعقلُ أن تجد مِن أحدهم اهتماما ولا تقديرا.
تذكرت بعد عودتى مِن الاحتفالية أوراقا قديمة متعلقة بتطور استخدامنا للكلمات، كتبتها منذ زمن وطرحتها جانبا. فتشت عنها وعثرت على بعضها فيما تاه بعضٌ آخر. حَمَلت الأوراق التى استخرجتها وكانت على هيئة مقالات قصيرة، لا تتجاوز كلٌ منها الأربعمائة كلمة، راجعتها ورأيت مِنها ما لا يزال صالحا للقراءة حتى الآن. ولأن الحال لا تسرُ، ولأن أوجاع السياسة والتاريخ والجغرافيا صارت عصية على الوصف والصياغة وعلى السخرية أيضا، ولأن السأم أحاط بتحليلات علم النفس والاجتماع، فقد فضلت أن أنقل هذه المرة، وعلى شرف الاحتفال بلغة الضاد إحدى المقالات المخفية:
«يتحدث اثنان عن ثالث لا تعجبهما سلوكياته فيصفه أحدهما مُمتعِضاً بأنه: بنى آدم بيئة. يرغب شخص فى إهانة آخر والتحقير مِن شأنه فيصمه بأنه راجل بيئة، وتنزع امرأة إلى اصطفاء ذاتها وإعلائها وتنزيهها عن النواقص، فتشيح بوجهها متأففة ومُصورة الآخرين على أنهم ناس بيئة.
أحيانا ما يُراَد بالكلمة وضاعة الأصل والمنبت، وأحيانا ما يُقصَدُ بها الإشارة إلى سوء التربية والخصال وفساد الأفعال والتصرفات، تصبُ معانى الكلمة أغلبها فى فكرة الحَط مِن قيمة إنسان أو جماعة ما، وتُطلَقُ فى العادة لتنبه إلى أن ثمة آخر يحتل مرتبة أدنى، فالشخص البيئة هو شخص دون المستوى، لا يُحَبَذُ التواصل معه ولا تنبغى مُصَاحبَتُه. تحمل الكلمة بُعدا طبقيا مُضمَرا، كما تحمل بُعدا أخلاقيا، وتمزجهما معا، ولا يخفى على من يستعملها، ومن يستقبلها أيضا أن الموصوف يغدو بمقتضاها مُدَانا على الجبهتين.
***
تُرَدُ كلمة «بيئة» فى المعجم الوجيز إلى الأحرف الثلاثة (ب، و، أ)؛ ومنها يأتى الفعل «بَاءَ» إلى شىء أى رجع إليه، و«بَاءَ» بِحَقِه أى أقر واعترف، و«أباء» فلانُ فلانَ منزلا أى هيأه له، و«تبوأ» فلان المكان أى نزله وأقام به، ويقال أيضا تبوأ مكانة رفيعة والمقصود سمو منزلته وقيمته، أما كلمة «بيئة» نفسها فتأتى فى المعجم لتُعَبِر عن المَنزل، أو مجموع الأشياء التى تحيط بالفرد والمجتمع وتؤثر فيهما، فيُقال فى هذا الإطار: بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية وبيئة سياسية.
دونما مناسبة لغوية، أصبحت كلمة «بيئة» تشير فى قاموسنا الحالى إلى صفات القبح، والدناءة، والتردى، وسوء الخلق جميعها سويا، والفرضية التى يمكن طرحها بغير مشقة وعناء، أن يكون لهذا الاستعمال الجديد علاقة بالواقع، فلا يخفى أن هذه هى حال «البيئة» الحقيقية لدينا، مادية كانت أو معنوية. البيئة الملوثة الطاردة؛ التى تحمل الأمراض والعلل كلها، والتى يرغب الجميع ــ حتى من كانوا سببا فى تلويثها أو جزء مِن ملوثاتها ــ فى الابتعاد عنها ما استطاعوا. ربما انعكست هذه الحال على اللغة المستخدمة، فلم تَعُد البيئة كلمة مُحايدة، بل أصبحت لفظة باعثة على الازدراء والضيق، ومِن ثم فقد انتقلت تلقائيا إلى ساحة الشتائم والسُباب.
***
رغم محاولة التفسير السابقة، يبقى استغلال الكلمة على تلك الصورة غامضا وغريبا فى آن، كما يظل انتشارها على الألسنة دافعا للبحث وراء تضمينها ما لا يوجد فى أصلها ومعناها مِن دلالات. على كل حال لا ذكر لكلمة «بيئة» فى مختار الصحاح، ولا فى لسان العرب والقاموس المحيط، والمفردة الوحيدة القريبة منها فى منطوقها، والموجودة بتلك المعاجم هى كلمة (وبيئة)؛ وأصلها (و ب أ)، ومنها الوباء أى المرض، والوبىء هو العليل، ويقال أَرضٌ وَبيئةٌ بمعنى كثيرة المرض، كما يُشَار إلى الباطِل بكلمة «وَبىء»، وهو الأمر الذى لا تُحْمَدُ عاقِبَتُه.
يبدو أن الكلمتين اختلطتا فى لحظة ما، وقد رحنا نستخدم واحدة مَحَلَ الأخرى دون تحفُظ. تطور عبقرى ولا شك، فقد صارت بيئتنا «وبيئة» بالفعل؛ سواء على المستوى السياسى أو الاجتماعى أو حتى على مستوى الطبيعة».
يقيم المجمع احتفاليته الثانية باللغة العربية الأربعاء المقبل، وأظن أن المقاعد ستظل خاوية، فالبيئة التى تحيط بنا لا مَحَلَ فيها للأُسُس والقواعد والجماليات اللغوية، تلك التى صارت محض رفاهية فى ظل غياب الحدود الدنيا من الاحتياجات الإنسانية. اللغة جزء مِن الكرامة، والكرامة ما زالت مفقودة.
*ينشر المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة