مع بداية العام الجديد تنتشر التنبؤات وبعضها غاية فى الغرابة والطرافة، حتى المحتمل سطحيا منها: مثلا نهاية الاتحاد الأوروبى فى سنة 2016
مع بداية العام الجديد تنتشر التنبؤات وبعضها غاية فى الغرابة والطرافة، حتى المحتمل سطحيا منها: مثلا نهاية الاتحاد الأوروبى فى سنة 2016، وفى ظاهرة قد يبدو هذا التنبؤ منطقيا بسبب الانقسامات التى تعانينها أوروبا حاليا، مثل المطالبة بوقف تطبيق تأشيرة دخول تشينجن، وضغط شعبى بريطانى للانسحاب من الاتحاد عشية مفاوضات ستبدأ مع بداية العام الجديد.. ولكن هذا الاتحاد الذى تم تأسيسه منذ ما يقرب من 60 عاما بواسطة معاهدة روما فى سنة 1957 ثم تقدم حتى أرسى العملة الواحدة ـ اليورو ـ وتوسع من 6 أعضاء مؤسسين إلى 27 عضوا، بالإضافة إلى العديد على الأبواب ينتظر السماح بالدخول منذ عقود مثل تركيا، مثل هذا الاتحاد يواجه مشكلات التنسيق خاصة فى مواجهة أزمات مثل أزمة المليون لاجئ هذا العام، وهى مشكلات متوقعة فى مرحلة النمو، ولكنه لن ينهار، حتى لو انسحب بعض أعضائه. ما لفت نظرى أكثر مع بداية 2016 هو تحذير دار الإفتاء. حيث تقول «الأهرام» فى عددها الصادر يوم السبت 26 ديسمبر: «أكدت دار الإفتاء المصرية كذب المنجمين الذين يعلنون بنوءات قبل بدء العام الميلادى الجديد، وادعاءهم معرفة أحداث مستقبلية لا يعلمها إلا الله تعالي.. لافتة إلى أنه على المسلم معرفة أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وأنه النافع والضار، وأنه من الشرك بالله أن يعتقد الشخص أن لغير الله من الإنس أو الجن أو غير ذلك تأثيرا فى معرفة الغيب، أو كشف الضر والبلاء أو النفع له».
من الواضح أن دار الأفتاء هنا تقصد المنجمين الذين يدعون معرفة علم الغيب «وهو نوع من الدجل، حتى وإن تحققت بعض هذه الأمور مصادفة، لأن عالم الغيب والشهادة هو الله تعالي».
بسبب مكانتها المتميزة ليس فقط فى مصر، ولكن فى العالم الإسلامى كله، فما تقوله دار الإفتاء يصبح أقوى من أى قانون، لأنه يشكل النظرة الشائعة وقالب التفكير العام، حتى بين بعض أعضاء النخبة، من منا ـ مهما يكن علمه ومقدرته ـ يجرؤ على التدخل فى أمر يخص الله وحده، لأن الادعاء بمعرفة أحداث مستقبلية لا يعلمها إلا الله تعالي.. «هو من الشرك بالله».
كنت أتمنى على دار الإفتاء ألا تختزل كل الكلام عن المستقبل فى عمل المنجمين الجهلاء ومن «يضربون الودع» بمعنى أصح وأوضح كنت أتمنى على باحثيها أن يتجاوزوا الكلام المعروف والمتكرر عن كذب المنجمين ولو صدقوا ليدلوا لنا برأى واضح ونافع فى علم حديث نسبيا ولكن تعود جذوره إلى ما يقرب قرن من الزمن: علم المستقبليات أو Future sltudis يرتبط جذور علم المستقبليات هذا باسم عالم الفيزياء وصاحب الخيال العلمى البريطانى ويلز H.G.wells الذى تنبأ فى سنة 1902 بعدة حروب مدمرة ودعا إلى حكومة من التكنوقراط لإنقاذ العالم.
كما تنبأ أيضا فى سنة 1914 بقرب التوصل إلى القنبلة الذرية. وبالرغم من أن بعض نبوءاته عن نهاية العصر الرأسمالى مثله مثل ماركس ـ لم تتحقق لأنهم أغفلوا قدرة هذا النظام على التطور والتجديد، إلا أن ويلز ـ كعالم مدقق ـ كان واعيا بصعوبة التنبؤ، ولذلك فى كتابه عن عالم المستقبل فى سنة 1933 وكذلك فى محاضرته المهمة فى الـ.بي.بي.سى BBC فى نفس العام، دعا إلى مزيد من الحبكة المنهجية العلمية بل انشاء أقسام وكراسى علمية فى الجامعات لتشجيع «الاهتمام ببعد النظر والتفكير فى المستقبل».
ومازلت اتذكر أنه فى أثناء الدراسة فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان من الكتب الرئيسية فى علم العلاقات الدولية كتاب الأمريكى هرمن كاهن، الذى بدأ يتصور العالم فى حالة حدوث اللامعقول unthinkable أى الحرب النووية، وكتابه فى سنة 1967 عن إطار للتفكير والتأمل فى الـ33 عاما المقبلة أى مع بداية الألفية الثالثة، ثم كتابه فى سنة 1972 عن نظرة مستقبلية لتحقيق المجتمع الناضج.
وفى سنة 1967 مع تأسيس رابطة أو «اتحاد مستقبليات العالم» أصبح هذا العلم مستقرا حيث هناك كورسات لطلبة البكالوريوس وكذلك درجات الماجستير المتخصصة من جامعة هاواى إلى ماجستير الدراسات المستقبلية من المركز الفنلندى لبحوث المستقبل. وهناك الآن 24 مشروعا عالميا لدراسات المستقبل، أهمها مشروع الألفية الثالثة، وكذلك 17 مركزا لأبحاث المستقبل لا تقتصر على الولايات المتحدة أوحتى العالم الغربي، ولكن تمتد إلى جنوب إفريقيا وولاية كيرالا الهندية، كما أن هناك 4 دوريات علمية متخصصصة وما يقرب من 40 متخصصا من أشهرهم ألفين توفلر الذى أصبح أول كتبه عن «صدمة المستقبل» من أكثر الكتب المباعة فى ثمانينيات القرن الماضى وترجم إلى عدة لغات. كما أن نائب الرئيس الأمريكى السابق، آل جور، دشن حياته العلمية بكتابه عن «المستقبل والعوامل الستة التى تقود التغيير العالمي». بالقرب منا هناك أعمال الباحث المغربى الراحل المهدى المبخرة، وكذلك كتابات الصديق سيد يس.
ليس علم المستقبليات بالعلم الدقيق مثل الكيمياء أو الطبيعة وهو فى هذا يقترب أكثر من العلوم الاجتماعية بما فيها علم الاقتصاد وإدارة الأعمال. ولكن بالنسبة للقائمين به، فان أهميته تكمن فى تأكيد نظرة كلية لتخطيط حياتنا، على مستوى الفرد والمجتمع، وارساء إطار تحليلى قائم بقدر الإمكان على منهجية علمية. مثلا ماذا سيكون تأثير انخفاض أسعار البترول على المساعدات التى تتلقاها مصر من الدول الخليجية، بالأرقام، وكذلك تخطيط رد الفعل والسياسات الملائمة؟ ما أثر التغير المناخى وارتفاع درجات الحرارة على مصير الدلتا: هل ستغرق مدنها فعلا؟
أهمية علم المستقبليات هذا هو إذن التشجيع على التفكير العلمى وربط الأشياء ببعضها البعض للاستعداد بسياسات ملائمة، وكل منا يحتاج لمثل هذا التفكير المستقبلى القائم على نظرة كلية للأمور، وما أكثره اختلافا عن كل المنجمين وضاربى الودع.
لقد اختزل بيان دار الإفتاء كل التفكير فى المستقبل فى عمل المنجمين والتدخل فى إرادة الله سبحانه وتعالي، بدلا من تشجيع باحثيه على الإطلاع على ما يحدث فى المراكز الأكاديمية العلمية عن استشراف سيناريوهات المستقبل والتخطيط لها، وهو بذلك يقع فى فخ المقولة المبتورة «ولا تقربوا الصلاة...» ودون قصد قد يشجع الكثيرين ـ حتى بين النخبة ـ على التواكل والسلوك الهلامي.
وكل عام ونحن أفضل علميا وإنسانيا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة