شىء ما، فاتن وساحر، يكمن فى أفيشات الأفلام. ربما لأنها تثير الذاكرة، تستحضر نجما محبوبا، وقد يجسد ميلا معينا فى مزاج الناظر
شىء ما، فاتن وساحر، يكمن فى أفيشات الأفلام. ربما لأنها تثير الذاكرة، تستحضر نجما محبوبا أو نجمة فى القلب، وقد يجسد ميلا معينا فى مزاج الناظر، فإذا كان رومانسيا، سيطالع وجوها شفافة، ناطقة بالأشواق والمحبة.. ولن يعدم ذوى النزعات المغامرة، رؤية ملصقات ترصد مطاردات سيارات ومواجهات بشرية عنيفة.. كذلك الحال بالنسبة للمتعاطفين مع القضايا الاجتماعية، ثمة صور لهائمين على وجوههم، ممن قست عليه الحياة.
هواة جمع الأفيشات، من حسن الحظ، تواجدوا فى معظم بلاد الدنيا، يرجع لهم الفضل فى بقاء ذاكرة الملصقات حية، ومن مجموعاتهم الخاصة أقيمت المتاحف والمعارض والأرشيفات، دليلا على التحضر، حتى أن مدينة تورينو الإيطالية تحظى بتقدير ثقافى رفيع، يرجع، فى بعد من أبعاده، إلى ما يتضمنه متحف السينما الكبير، من ملصقات معروضة على امتداد خمسة طوابق، يتجاوز عددها ربع مليون أفيش.
فى مصر، إلى جانب الناقد الأستاذ، سمير فريد، المطالب الدائم بإنشاء أرشيف للسينما المصرية، انطلق الباحث محمود قاسم، منذ عدة عقود، فى تجميع الملصقات السينمائية، وحافظ العاشق السكندرى، مكرم سلامة، على الآلاف منها، وأصدر الغاوى، سامح فتحى، أكثر من كتاب، فى هذا الشأن.
من لبنان، ينهض اسم عبودى أبوجودة، الذى أدركته حمى جمع الملصقات الممتعة، وهو فى السابعة عشرة من عمره، وظلت ملازمة له، منذ عدة عقود، اقتنى خلالها مئات الأفيشات، اختار منها مجموعة كبيرة، أقام بها معرضا فى صالة عرض نادى اليخوت، بوسط العاصمة، خلال هذا الشهر، وتعمد، فى لمسة مبتكرة، أن تتردد فى القاعة، تسجيلات للأغانى والموسيقى، التى توافرت فى الأفلام أصلا.. والأهم، صدور كتاب «هذا المساء»، الضخم، حجما وقيمة، يبلغ عدد صفحاته، من القطع الكبير «٥٣٦» صفحة، تحتوى على نماذج واضحة الألوان، لـ«٢٥٢» ملصقا، و«٧٤٠» صورة، و«١١٠» صور على كرتون، فضلا عن «٤٠» دليلا إعلانيا، و«٦٠» مقالا، و«٣٤» إعلانا صحفيا، مع نبذة موجزة، دقيقة، عن تاريخ السينما فى لبنان، بقلم عبودى أبوجودة ــ وهو صاحب دار الفرات للنشر، كما كتبت الباحثة النابهة، زينة معاصرة، أربع صفحات مكثفة، عن تاريخ الأفيشات اللبنانية، وتطورها، منذ كانت تطبع فى مصر، حتى الآن.
الكتاب الأنيق، المغلف بورق كرتونى مقوى، مما زاد من وزنه، لم أستطع مقاومة إغراء شرائه.. لكن ترددت من جديد، ليس بسبب ثقله فحسب، بل بسبب ثمنه: مائة دولار!.. ويبدو أن المسئول عن المعرض أدرك بذكائه، مدى إقبالى وإحجامى.. تحدث بمحموله إلى صاحب الشأن، الذى جاءنى صوته، حميما لطيفا، وكان كريما معى، على الطريقة اللبنانية، فجاملنى بتخفيض السعر إلى ثمانين دولارا.
عنوان الكتاب «هذا المساء»، كما صرح لى عبودى أبوجودة، مأخوذ من تلك اللافتة التى كانت تتصدر واجهة السينمات البيروتية، تحتها أفيشات الأفلام التى سيتم عرضها.. ذكرت له أن جرائد القاهرة، فى الستينيات، دأبت على نشر إعلانات الأفلام، تحت عنوان «أين تذهب هذا المساء».
رحلة الكتاب تستغرق نصف قرن، من العام «١٩٢٩ إلى ١٩٧٩»، وفيها تتداخل السينما المصرية مع السينما اللبنانية. ليس فقط من باب التأثر والتأثير، ولكن فى مجال الحضور البشرى، خاصة، طوال الستينيات، حين ذهب طابور طويل من الفنانين المصريين إلى بيروت مخرجين، مثل يوسف شاهين، بركات، حلمى رفلة، سيد طنطاوى، وآخرين.. ومن الممثلين: فاتن حمامة، نبيلة عبيد، شمس البارودى، عزت العلايلى، وآخرين.. ربما أكثرهم إثارة للبحث، فريد شوقى.
وحش الشاشة ــ كما تستنتج من الكتاب الثمين ــ هو أحد محاور الوصل، بين السينما المصرية، والسينما اللبنانية، بحكم الإنتاج المشترك بين شركات لبنانية ومصرية، وهى مسألة جديرة بالبحث، وهو أيضا ــ فريد شوقى ــ من أهم الوجوه التى اعتمدت عليها السينما التركية، إبان فترة نهوضها، وانتشارها. «هذا المساء»، يخطرنا، بالأفيشات، عن أفلام لا نكاد نعرف عنها شيئا، قام ببطولتها، وحش الشاشة، الذى خلب لب العديد من المخرجين الأتراك، على رأسهم المخرج الكبير، عاطف يلماز، الذى قدمه فى «الصعلوك» ١٩٧٢، بعد «عثمان الجبار» ١٩٦٨.. خلال خمسة أعوام، حقق فريد شوقى ما بين لبنان وتركيا «١٢» فيلما، وكما هى العادة، بناء على استحقاق النجم الجماهيرى، وإصراره، تتصدر صورته، منفعلا، أكبر مساحة من الأفيشات.
«هذا المساء»، الفريد فى طباعته، الممتع فى تقليب صفحاته، يعد انجازا ثقافيا، سينمائيا وتشكيليا، يثير عشرات الأسئلة والقضايا، ويجعلنا نتأمل علاقاتنا الوثيقة، مع جيران أصبحوا، جزءا منا، كما نحن، جزءا منهم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة