بيروت: توقّف الملاحق الثقافية.. فلنرثِ الصحافة الورقية
شهد عام 2015 توقف ملحق "نوافذ" في جريدة "المستقبل" ثم ملحق "النهار"، ومعهما انتهت حقبة هامة في الحياة الثقافية والسياسية في لبنان
في 2015 شهدت الساحة الثقافية اللبنانية عاماً استثنائيًّا مع نجاحات وجوائز في السينما والمسرح، لكنها شهدت أيضاً نكسة للملاحق الثقافية في الصحف اللبنانية... منذ أيام قليلة تم توقيف ملحق "النهار" (في منتصف كانون الأول – ديسمبر الحالي)، وقبله توقف ملحق "نوافذ" (في نهاية أيلول - سبتمبر المنصرم)، وهكذا انتهت حقبة بالغة الأهمية في الحياة الثقافية والصحافية ببيروت، نظراً لما كان لهذين الملحقين من مكانة وتأثير، ونظراً للدلالة التي انطوى عليها هذا التوقف... الرثاء ليس لهذه الخسارة، لكن لمعنى الصحافة الورقية.
كان امتياز الجرائد اللبنانية يتحدد في جودة الصنع والتكلّف والأناقة الإخراجية... لكن، فوق هذا كانت تمتاز في التخصص والتبويب، متأثرة على الأغلب بالأسلوب الفرنسي... ففي مطلع الستينيات، تكرست للمرة الأولى فكرة "الصفحة الثقافية" اليومية، المتخصصة بالكتابة والنقد والمتابعة الاحترافية للحياة الثقافية والأدبية والفنية... هذا ما جعل صحيفة "النهار" حينها، مثالاً يحتذى أخذت به الجرائد اللبنانية والعربية... ثم أقدمت الصحيفة نفسها على ابتكار فكرة "الملحق" الثقافي الأسبوعي، الذي لعب دوراً مؤثراً في مواكبة سنوات الازدهار غير المسبوق في الثقافة أولاً وفي الإعلام تالياً.
منذ ذلك الحين، بات على كل صحيفة تطمح إلى التميز والمكانة أن تُصدر أيضاً ملحقها الثقافي الخاص بها... وهذا التقليد تعمم عربيًّا أيضاً.
في العام 1999، صدرت في بيروت صحيفة "المستقبل"، التي أسسها رفيق الحريري، وبطبيعة الحال، كان للجريدة الجديدة ملحقها الأسبوعي "نوافذ"، الذي امتاز بتوسيع مجال الصحافة الثقافية، إلى حقول جديدة، كالفن الفوتوغرافي والعمارة وظواهر الحياة اليومية وأساليب العيش وأبعادها السوسيولوجية وكتابة الرحلات ونقد السياسة والأبحاث والنصوص الأنثروبولوجية والترجمات..إلخ... وبعد نحو عقد ونصف من صدور الملحق كل يوم أحد، توقف الملحق عن الصدور في سبتمبر 2015، وما هي إلا أشهر قليلة حتى تم توقيف ملحق النهار، في منتصف ديسمبر 2015 أيضاً.
يبدو أن الصحف اللبنانية تموت... هذا ما نعلمه ولا نتجرأ على قوله... فالوقت الصباحي لقراءة الجرائد الورقية ما عاد مديداً، يمكننا أن نقرأ، وبالأحرى نتصفح، الجرائد الأساسية في نصف ساعة على الأكثر، وهي قراءة ليست بالطبع نابعة من حاجتنا لمعرفة الأخبار، التي بتنا نعرفها مسبقاً وأسرع من لحظات طباعة آخر خبر بالصحف فجراً... نحن نقرأ هذه الجرائد اليوم، استمراراً لـ"القراءة" واستدامة لعادة الاطّلاع والمطالعة، ومن أجل هذا الترتيب الذي اعتدناه في تبويب الصفحات: الأولى و"المانشيت"، المحليات، التقارير، مقالات سياسية، الاقتصاد، العربيات والدوليات، الثقافة والفنون والمجتمع، الرياضة والمنوعات، وأحياناً صفحة الرأي والأفكار... هو ترتيب يتيح لنا رسم الصلات والروابط بين الأحداث وأوجه حركة العالم وظواهره... خاصية الصحف هي في تجاور المختلف والمتباين والمتباعد: تصريح لأوباما وأسعار عملات وجدول مباريات كرة القدم و"داعش" وملكة جمال ونقد لكتاب تشارلز بوكوفسكي... إنها صورة العالم اليومية، صورة ثابتة مطبوعة على ورق، صورة من لغة وتعابير وكتابة وفوتوغرافيا، ثمة شعور تمنحنا إياه الجريدة: المعرفة اليومية، سلطة المعرفة، امتياز القراءة، قوة التفكير.
التلفزيون الإخباري، ربما يقدم كل هذا، صوتاً وصورة، لا قراءة ولا كتابة... لكن ما يفعله التلفزيون تحديداً هو "استهلاك" الخبر، طيّه واستنفاده وتبديده... آلة هائلة لفرم الأخبار وقذفها إلى الماضي، بالدقائق... ما كان قبل ساعة، خبراً وحدثاً، يصير ماضياً، ما يمنحنا الشعور أننا دوماً متخلفون عن العالم، وغير قادرين على اللحاق به... التحقيق الصحافي الذي نقرؤه في الجريدة، بمتوسط مساحة 2000 كلمة ونصف ساعة قراءة متمهلة ومتمعنة، هو تلفزيونيًّا 20 ثانية من تصوير وكلام عموميين، وهنا، بدلاً من أن نقرأ ونتفكر ونستوعب ونفهم، نتحول إلى متفرجين ومتلقين، من دون أي وقت لاستيعاب فعلي... في المقابل، يمنح التلفزيون وقتاً مديداً للثرثرة... برامج التوك شو، على أنواعها، يستحيل تحريرها نصًّا صالحاً للنشر والقراءة في الصحف الورقية، إذ ستظهر بوصفها هذراً محضاً، لكن أيضاً أن يتلو أحدهم على التلفزيون نص مقالة تحليلية، فهو فعل لا يبعث إلا على الضجر والتبرم، سيكون أشبه بحماقة.. بهذا المعنى، يقترح علينا التلفزيون "التسلية" أخباراً ومشاهدة، أو الاستهلاك، طالما أنه يؤلف نسقاً من الرموز والعلامات، التي لها منطقها الخاص وحياتها الخاصة، والتي تلغي الحياة الواقعية، مستبدلة إياها بواقع مصطنع ومكثف وسريع الزوال. إنه يستبدل علاقة المسؤولية بفضول المستهلك وحسب... التلفزيون هو أشبه بـ"إعادة تمثيل" ما يحدث.
الإنترنت، هو حال تتوسط الصحف والتلفزيون، حال من شبهة قراءة وشبهة فرجة. معظم مستخدمي الإنترنت "يشاهدون" النصوص المكتوبة أكثر من قراءتها. إنهم يتفرجون في تجوال محموم على كل ما هو منشور، صوراً وشرائط فيديوية ونصوصاً مختصرة أغلب الأحيان. نادراً ما يعمد مستخدم الإنترنت إلى "النزول" بـ"الماوس" لقراءة نص طويل، وإن فعل فعلى سبيل "التصفّح" فقط ليس إلا. ويمنحنا الإنترنت أيضاً شعوراً زائفاً بالاستحواذ على العالم وعلى المعلومات، إضافة إلى زيف الشعور أننا نقرأ أو نشاهد. فهو إذ يغمرنا بلا محدوديته، بلا نهائية أبوابه ومعلوماته، يسلبنا أي سيطرة على التدفق العشوائي... بمعنى آخر، الإنترنت يقترح سيطرة "الافتراضي" على الواقع، بل يوهمنا أن الواقع ليس واقعاً، إلا في حال وجود الرديف الافتراضي له... الخلاصة: كل ما هو خارج الإنترنت ليس موجوداً.
تموت الصحف، لأن البطء ومفهوم البطء وطقوس البطء كلها تموت... ذاك الذي يمنحنا الشعور بإنسانية الوقت، بقدرتنا على تنظيم العالم وزمنه... البطء هو القراءة، تأمل ومعايشة الواقع وإحالته إلى علامات وأفكار وكلمات... البطء شرط إنتاج المعرفة أو تداولها، لا كسلعة، لكن كمنتج فردي وكنشاط فردي، وأن يشعر كل امرئ أنه يواجه العالم ويستوعبه ويقوله... هو شعور بالكينونة.
الورق والحبر والملامسة الحميمة الفيزيائية للجريدة، اللغة بأحرفها ومعانيها ودلالاتها وشكلها التصويري المطبوع... تلك علاقة أبعد من "نشر" أخبار، إنها حياة ذهنية خاصة، تفاعلية وعميقة، لا تمنحها "المشاهدة" والفرجة البصرية.. ولا صوت هنا.. فصمت القراءة هو حياة عقلية كاملة، ودخول مباشر في "تاريخ" الكلمات والرموز، وانتباه كلي لرحابة المعنى.. ربما لهذا السبب، قارئ الجريدة وحده هو الذي يستحق وصفه بـ"الكائن السياسي"... وربما أيضاً، انحطاط السياسة والسياسيين هو ترجمة مباشرة لانحطاط الصحافة الورقية المطبوعة واحتضارها... السياسة اليوم كما "التوك شو" التلفزيوني، هذر كثير يبتذل المعنى.. ولا ثقافة في فضاء الهذر.
aXA6IDMuMTM4LjExOC4xOTQg جزيرة ام اند امز