"لعبة العروش" تحولت إلى حرب.. والسبب نسخة مقرصنة
صدرت "لعبة العروش" بسعر رآه الجمهور أنه مرتفع، وما هي إلا أيام حتى نشرت نسخة مقرصنة لها على الإنترنت.. فجَّر غضب أصحاب الحقوق
معركة ساخنة اشتعلت على مواقع التواصل الاجتماعي أخيرًا على خلفية كتاب صدر حديثًا، تمت قرصنته ورفع نسخة إلكترونية منه عقب صدوره مباشرة، القصة بدأت قبل عدة أيام، حينما أصدرت "دار التنوير" للنشر والتوزيع بالقاهرة، الترجمة العربية من رواية "لعبة العروش" في مجلدين ضخمين، بترجمة هشام فهمي، وطرحتها في الأسواق ولدى المكتبات، بسعر رآه جمهور كبير أنه "مغالى فيه بصورة كبيرة" (طرحت النسخة الواحدة بـ 260 جنيهًا مصريًّا أي ما يوازي تقريبًا اثنين وثلاثين دولارًا ونصف).
ولم يمض على طرح الكتاب في السوق سوى أيام قليلة، حتى فوجئ رواد التواصل الاجتماعي ومواقع تحميل الكتب بنسخة مصورة من الكتاب مرفوعة على الشبكة العنكبوتية، ولم يكن للأمر أن يثير كل هذا الجدل في السابق كونه تكرر مع عشرات بل مئات الكتب في السابق، لكن احتفاء البعض بهذه النسخة المزورة والترويج لها، فجَّر بركان غضب لدى أصحاب الحقوق (وهم محقون في ذلك).
وسرعان ما اندلعت معركة شرسة تطورت سريعًا لتصل إلى تراشقات لفظية واتهامات قاسية، واحتدم الجدل والنقاش، ووسط كل هذا الغبار المثار، الذي لم يتبدد بعد، كانت ثمة آراء وجيهة طرحها كل طرف من الطرفين المتصارعين، ما بين مدافع عن الحق الأصيل للناشر في تحديد ما يراه مناسبًا لتسعير كتبه وفق متطلبات الصناعة ونفقات الطباعة والدعاية والتسويق وحقوق الكتاب وما إلى ذلك، وما بين رافض لهذه السياسة ومطالب بضرورة وجود آليات تحد من هذا الارتفاع الكبير في الأسعار مما يدفع أعدادًا غفيرة إلى الإقبال على النسخ المزورة والطبعات "المضروبة".
ما بين مؤيد ومعارض، ساخط وشامت، صاحب حق متذمر وقراء معترضين، اندلعت ألسنة لهب طالت صفحات العديد من الكتاب والناشرين وعشرات القراء، كل يبدي حججه وحيثياته، لكن الأمر تجاوز النقاش والاحتداد إلى تراشقات لفظية واتهامات بالسرقة والاحتيال وجهها كل طرف للآخر.
الناشر والمترجم والموزع لـ"لعبة العروش"، صبوا جام غضبهم على من قام بالقرصنة ورفع الكتاب على الإنترنت، ودخل معهم على الخط ناشرون ومؤلفون وكتاب آخرون، في ما تشكلت جبهة أخرى معارضة ترفض القرصنة لكنها في الوقت ذاته تدافع عن حق القراء في الوصول إلى ما يبتغون من كتب وروايات في ظل غلاء أسعار الكتب المبالغ فيه، كما تتهم هذه الجبهة الناشرين وأصحاب الحقوق بالمغالاة والاحتكار، وأنهم وراء اضطرار الكثيرين إلى اللجوء لقراءة الكتب المقرصنة والاستغناء عن الكتب الورقية والطبعات الشرعية.
القضية ليست جديدة، وتمت إثارتها خلال السنوات الماضية عشرات المرات. قرصنة الكتب أحد الأمراض المزمنة التي تضرب سوق النشر العربي، وفي ظل فوضى المشهد وغياب قوانين وإجراءات تضبط هذا السوق وتحفظ لكل طرف حقوقه وبما لا يمس حق القارئ العادي في المعرفة ومطالعة الكتب، فإن الأمر مرشح لمزيد من التفاقم والمشكلات خاصة ما تتسبب فيه قرصنة الكتب من خسائر فادحة لأطراف صناعة النشر؛ الكاتب والمؤلف، المترجم، الناشر، الموزع.. إلخ
المترجم هشام فهمي، ومن ورائه دار النشر، صب جام غضبه على من روج للكتاب المضروب وأعلن عن توافره إلكترونيًّا على الإنترنت، ودخل في سجال عنيف وثائر ضد كل من أبدى وجهة نظر مخالفة، واشتبك لفظيًّا مع كثيرين، ربما كان أبرزهم الكاتب والمترجم أحمد شافعي، الذي طرح وجهة نظر لا تدافع عن قرصنة الكتب ولا تؤيدها ولا تدعو إليها، لكنه في الوقت ذاته يلوم على الناشرين وأطراف الصناعة افتقارهم إلى سياسات نشرية واضحة وإجراءات تضبط السوق وتتيح الكتاب بسعر مناسب لقارئه، واستشهد شافعي في معرض مناقشته الموضوعية للقضية بفقرات من فصل عن الملكية الفكرية في كتاب "السامريون الأشرار" لـ هاجون تشانج أستاذ الاقتصاد في كمبردج، تمت ترجمته أخيرًا وصدر عن دار الكتب خان بالقاهرة، يقول فيه مؤلفه:
"يتكرر هذا السؤال عليّ كلما انتقدت نظام حقوق الملكية الفكرية الراهن في محاضراتي: وأنت هذا المعارض لحقوق الملكية الفكرية، هل يمكن أن تسمح للناس بسرقة أبحاثك ونشرها بأسمائهم؟.. وهذا من أعراض الذهنية التبسيطية التي تهيمن على مناقشاتنا لقضايا الملكية الفكرية، فانتقاد حقوق الملكية الفكرية بوضعها الراهن لا يساوي القول بالقضاء كليةً على الملكية الفكرية ذاتها.
ولست أقول إننا بحاجة إلى إلغاء براءات الاختراع، وحقوق النشر أو العلامات التجارية؛ لأن لها فعلا أغراضًا مفيدة، ولكن انتفاعنا ببعض حقوق الملكية الفكرية، أو اضطرارنا إليها، لا يعني أن يكون المزيد منها خيرًا. وقد يكون التشبيه بالمِلْح ملائمًا في إيضاح هذه النقطة، فبعض الملح لازم لبقائنا، وزيادته قليلا يجعل طعامنا ألذ، وإن ألحق بصحتنا شيئًا من الضرر، ولكن أذاه لصحتنا، إن زاد عن حد معين، يفوق منافعه المتمثلة في لذة الطعام، وكذلك حماية حقوق الملكية الفكرية، فالحد الأدنى منها ضرورة لخلق حافز إلى إبداع المعرفة، وزيادتها قليلًا قد تؤدي إلى منافع تفوق التكاليف، لكن قدرًا أكبر من اللازم منها كفيل بأن تتجاوز التكاليفُ المنافعَ فإذا بها في النهاية تضر الاقتصاد".
الفريق الآخر الذي يتزعمه بعض المروجين للكتب المقرصنة، ورفع الكتب المصورة بطريقة غير شرعية على الإنترنت، اعتبر أن توفير الكتب بهذه الطريقة يخدم قطاعًا واسعًا من القراء غير القادرين على شراء الطبعة الشرعية خصوصًا إذا كانت غالية الثمن، بل زعم أن فعل القرصنة يزيد من توزيع الكتاب الأصلي والترويج له (هكذا!) واستشهد بعديد من الكتب التي تم رفعها بطريقة غير شرعية دون أن تغلق دور النشر أبوابها، ولا خسر مؤلف ومترجم من وراء ذلك! بل زاد بعضهم وأورد عناوين لكتب عربية ومترجمة اعتبر أن حجم مبيعاتها زادت بعد أن تعرضت للقرصنة! مثل رواية "قواعد العشق الأربعون" للتركية إليف شافاق، وروايات أورهان باموق وعناوين أخرى.
في المقابل، دخل الروائي الشاب والكاتب السوداني حمور زيادة، على الخط بتعليق موجز ودال، وكتب على صفحته الشخصية يقول: "صادفت الطبعة العربية من كتاب "لعبة العروش" قبل يومين في مكتبة تنمية، ولم يكن في نيتي شراؤه، فقد اكتفيت بمتابعة المسلسل، لكن بعد ما حدث اليوم و"ضرب" نسخة مجانية إلكترونية منه على النت، فإن أقل ما أساعد به الصديق حسن ياغي هو شراء نسخة ورقية من الرواية ودعوة الأصدقاء لفعل المثل.. القرصنة تقتل الناشرين".
وكذلك أيضًا كان موقف الشاعر والصحفي محمود عبد الرازق جمعة الذي أعلن بدوره في كلمة وجهها إلى مترجم الكتاب المقرصن "ورد إلينا أن أحد الأشخاص -لا مؤاخذة- المحترَمين، سرّب نسخة من ترجمتك لرواية "لعبة العروش"، إلى الإنترنت، وهذا -بداهةً- ضربٌ لمبيعات الترجمة، وعلى الرغم من أنني لم أكُن أنتوي أن أُدلِي بجردلي في هذا الموضوع، فإن في قصبتي الهوائية عبارةً واحدةً أريد إخراجها لك، وأجري وأجرك على الله: "يا صديقي، ما من كتاب أدَّى تسريبه إلى ضعف مبيعاته، ولك في أعمال محفوظ العبرة والمثل". فلا تحزن يا صديقي ولا تقلق، واعلم أن جهدَك محفوظ -محفوظ برضه- وأن وراء هذا الابتلاء خيرًا كثيرًا".
أخيرًا وعلى هامش المعركة الملتهبة، يستدعي الموضوع طرح عدة تساؤلات لعل أهمها: هل يتسع المجال الثقافي العربي، شأنه شأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لمناقشات ساخنة وجدل محتدم واختلاف الآراء دون أن يتحول الأمر إلى عركة في خمارة، تتبادل فيها أقذع الألفاظ وأقسى الاتهامات.. وتثمر هذه المناقشات في النهاية عن خطة أو تصور شامل لمعالجة الأمراض المزمنة والآفات المستعصية في سوق الكتب والنشر بدلًا من استنزاف المجهود والوقت في السباب والشجار؟ لا يبدو في الأفق القريب ما يشير إلى ذلك!