بين تشكيل حكومة ائتلاف يقودها الحزب الشعبي بزعامة ماريانو راخوي، أو ترك الفرصة لتحالف يساري تحت لواء الحزب الاشتراكي.
بين تشكيل حكومة ائتلاف يقودها الحزب الشعبي بزعامة ماريانو راخوي، أو ترك الفرصة لتحالف يساري تحت لواء الحزب الاشتراكي، أو الدخول في نفق الأزمات الحكومية التي تبدأ ولا تنتهي، تقف إسبانيا أمام مفترق طرق، حائرة إزاء أقرب الطرق التي تؤدي إلى تجاوز المأزق السياسي الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة.
إنها المرة الأولى التي انعطفت فيها إرادة صناديق الاقتراع في اتجاه مغاير لما اعتادته النخب السياسية منذ عقود، أي الاستسلام لتناوب الحزبين الكبيرين الشعبي والاشتراكي اللذين انفرد كل منهما بحيازة الغالبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة، من دون الحاجة إلى دعم الآخر. ولم يكن لهذا التعاقب أن يستمر طويلاً في ضوء تغيير خرائط الناخبين، وفي ظل ظهور أحزاب جديدة، مثل «بوديموس» الذي يعكس الموجة الجديدة في ميولهم التي انفتحت على أفق آخر، بعد أن كانت تتأرجح بين اليمين واليسار. وبالقدر الذي استفاد الحزب اليساري الجديد «بوديموس» من تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية وتململ الشارع الذي صوت عقابياً، بحثاً عن التجديد، بقي الحزبان الكبيران أقل استيعاباً للشروط التي باتت توجه رغبات وتطلعات الشارع الذي يريد جزء كبير منه الخروج من تحت معطف الوصاية الثنائية.
ليست الظاهرة مقتصرة على شبه الجزيرة الإيبيرية، فقد حدث ما يماثلها في فرنسا، عبر زيادة نفوذ «الجبهة الوطنية» ذات المرجعية اليمينية المتطرفة، بينما اتجه الناخب الإسباني إلى اليسار أملاً في أن الوقوف إلى يسار التجارب الراهنة أفضل من الارتماء على يمينها. وقبل فرنسا وإسبانيا عرفت البلدان الإسكندنافية مثل هذا التحول. فيما ألقت مضاعفات الأزمة التي حلت بالنظام الاقتصادي بظلالها على مفاهيم التداول السياسي، والحاجة إلى حدوث تغيير في المفاهيم والنظريات والتجارب.
اللافت في غضون هذا الجدل أن نزعة التشبث بالهويات الخصوصية طفت على السطح، ولم تعد إسبانيا تواجه مأزق التناوب الذي كاد يستنفذ أغراضه، بل إن طلب إقليم كاتالونيا الاستقلال بات يشكل تحدياً حقيقياً. فالتلويح بانتهاك المشروع الانفصالي دستور الوحدة لم يوقف المد. كما أن تجارب الاستقلال الذاتي التي اعتبرت أكثر تطوراً في نقل السلطة من المركز إلى الهوامش، لم تحل دون تزايد هذه المطالب والنزعات.
الفرق الوحيد بين التحديات التي كان يفرضها إقليم الباسك في مرجعيته الانفصالية، وتلك التي ينادي بها الكاتالونيون، أن الأول كان اختار استخدام السلاح والعنف، بينما كاتالونيا تريد تمرير استقلالها عبر استفتاء. والظاهر أن الالتفاف الذي كان يواجه به الشعب الإسباني حركة الباسك، لم يعد له الزخم نفسه في مجابهة ميول كاتالونيا، إلى درجة أن بعض الأحزاب أضحت لا تمانع في ركوب الموجة.
لا خيار أمام الأحزاب التقليدية في إسبانيا غير المضي قدماً في مناهضة الطرح الانفصالي، أقله أنه يبقي على الهاجس الوحدوي كمشروع للتصدي لانفلات، قد يبدأ في إسبانيا ويتطور إلى مجالات أخرى في الفضاء الأوروبي، في فترة أضحى فيها النقاش حول البقاء في الاتحاد الأوروبي من عدمه أقرب إلى الاستساغة لدى أوساط عدة.
في أي حال، فالنقاش حول هذه المسألة، وإن اختلطت فيه أوراق الأحزاب السياسية بين معارض ومتردد ومؤيد، لم يخرج عن السيطرة، لأن لا مصلحة لأي دولة أوروبية في أن تدعم اتجاهات كهذه، عدا أن تجريب المد الانفصالي يبدو محظوراً في أعراف الدول الغربية، لكنه مستباح في مناطق أخرى، بخاصة إن كانت عربية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة