لكن الثابت بالفعل أن المهندس الإيطالي( ماريو روسي) هو صاحب تصميم هذا المسجد الذي اقيم في موضع ضريح
في الحلقة السابقة من صنايعية مصر و التي كان بطلها المهندس( محمد كمال إسماعيل) صاحب مشروعات مجمع التحرير و دار القضاء العالي و المشروع الأهم توسعة الحرمين الشريفين, و المشروع الأخير جعل ملايين المسلمين حول العالم مدينين بالفضل لهذا المهندس المصري العظيم الذي رحل دون تكريم يليق به,
و كنت قد كتبت في سياق الحديث عنه أن من بين تصميماته الهندسية كان تصميم مسجد( المرسي أبو العباس), وهي معلومة ليست صحيحة تماما فقد لفت نظري بعض الأصدقاء إلي أن صاحب تصميم المسجد الشهير هو المهندس الإيطالي( ماريو روسي), و ربما التبس علي الأمر بعد أن كان ضمن الأسباب التي عددها المهندس كمال إسماعيل لتوسعة الحرمين هو إعجاب القائمين في الأمر بمسجد المرسي أبو العباس, فاعتقدت أنه صاحب التصميم والتنفيذ خصوصا أن هذا تزامن مع الفترة التي تولي فيها كمال إسماعيل منصب مدير عام الأبنية التابعة للدولة في نهاية عهد الملك فاروق.
لكن الثابت بالفعل أن المهندس الإيطالي( ماريو روسي) هو صاحب تصميم هذا المسجد الذي اقيم في موضع ضريح وجامع قديم كان يضم رفات الصوفي العربي الأندلسي أبي العباس المرسي المولود في بلدة مرسية شرقي الأندلس.
المدهش أن هذا المهندس الإيطالي الذي استقدمه الملك فؤاد إلي مصر مع مجموعة من المهندسين الطليانة للعمل في وزارة الأشغال للأشراف علي القصور الملكية بواسطة المعماري الإيطالي إرنست فيروجي باي الذي كان يعمل لدي الملك فؤاد الأول مشرفا علي القصور الملكية لا سيما قصر عابدين, المدهش أنه وقع في غرام العمارة الإسلامية وأهتم بفنون وزخارف العمارة الأسلامية فبدأ في دراسة هذا الفن وتعلم بناء المساجد, إلي أن حانت فرصة تمسك بها و لم يضيعها, عندما قررت الاسرة المالكة أن تقيم مسجدا يحاكي في روعته و هيبته مسجد السلطان حسن بل أنها أختارت له موقع مقابل لمسجد السلطان حسن, و كان جزءا من الخطة أن يضم المسجد الجديد مدافن العائلة المالكة, و عندما بدأ العمل لم يكن الامر مبشرا, تدخل المهندس الإيطالي ماريو روسي في المشروع بأفكاره و تصميماته فخرجت تحفة معمارية اسمها( مسجد الرفاعي).
يقول المؤرخون: ولما كان الغرض الرئيسي من إنشاء هذا المسجد هو محاكاة ضخامة وفخامة مدرسة السلطان حسن المواجهة له, فقد صرف الفتي اليافع جهده نحو ملاحظة عمائر المماليك في القاهرة وتحليل عناصرها البنائية والزخرفية.
وتدل استعارات ماريو روسي علي إعجابه الشديد بفن العمارة المملوكي ثم العمارة الفاطمية بدرجة أقل في حين نأي بأعماله عن استعارة عناصر العمارة التركية العثمانية.
بعدها صمم و نفذ ماريو مرسي مسجد المرسي أبا العباس و الذي أدهش الجميع وقتها و قال عنه أهل الهندسة: وضع ماريو روسي بتأسيسه لمسجد أبي العباس اللبنات الأولي للعمارة الإسلامية الحديثة في مصر حيث تم الاستغناء عن الفناء أو الصحن الأوسط نظرا لضيق المساحات التي يمكن أن تخصص لبناء المساجد في المدن الكبيرة المكتظة بالسكان وفعل روسي ذلك دون أن يفقد المسجد عنصر الاضاءة الطبيعية الغامرة التي توفرت بإنشاء نوافذ سفلية كبيرة وعلوية معقودة فضلا عن نوافذ القباب المرتفعة عن مستوي سطح الجامع وحتي اليوم لا يزال المعماريون ينهلون من تقاليد جامع أبي العباس وهم يشيدون المساجد الحديثة الضخمة, وأقيمت أول صلاة فيه عام1945 م.
بعدها اتسعت دائرة ابداعات المهندس الإيطالي, فأبدع مسجد( القائد إبراهيم) في الإسكندرية, يقول المتخصصون عن عبقرية البناء في هذا المسجد: رغم ان مسجد ابراهيم انشئ وسط مبان عالية وكان من الوارد ان يختفي بعض الشيء عن العيون بسببها, فإن روسي تعمد أن يخفض ارتفاع المسجد حتي يستقطب الأنظار وسط هذه المباني الشاهقة, ثم فجأة ومن منتصف الجدار الشمالي الغربي ترتفع مئذنة نحيلة أنيقة وتنطلق في السماء لتشرف بهامتها علي كل المباني المجاورة.
ثم انتقل المهندس الإيطالي بنشاطه إلي القاهرة فصمم و شيد واحد من أشهر علامات قلب المدينة( مسجد عمر مكرم), و تقول عنه موسوعة مشاهير العمارة: حين سعي روسي لإنشاء مسجد عمر مكرم جعله مميزا عن كل ماسبقه من الانشاءات المساجدية في مصر, إذ تميز هذا المسجد بإستخدام روسي للستائر الجصية ذات الزخارف العربية واستطاع أن يحول بعض أجزاء من جدرانه إلي شكل هذه الستائر التي يتميز البناء فيها بالشكل المخرم حتي لتبدو مثل قطعة من الدانتيل, وبعد ذلك انتشرت تلك الأشكال إلي حد كبير وصل إلي حد الإسراف.
بعدها صمم و نفذ مسجد الزمالك الشهير, و لم يتوقف إبداعه عند تصميم تلك الأعمال( مسجد المرسي أبا العباس, و مسجد القائد إبراهيم, و مسجد الرفاعي, و مسجد عمر مكرم, و مسجد الزمالك), لكنه أيضا أسس مدرسة في فن العمارة قدمت لمصر أسماء لامعة صمت أعمالا خالدة, فمن تصميم تلاميذ مدرسة ماريو روسي خرجت مساجد عبد الرحيم القناوي في قنا, مسجد سيدي الفولي في المنيا,مسجد عبد الرحمن لطفي في بورسعيد, مسجد صلاح الدين المنيل( و الأخير من تصميم المهندس علي خيرت).
أخلص المهندس الإيطالي ماريو روسي للعمارة الإسلامية و كان أحد أهم صنايعية مصر في هذا المضمار, جاء إلي مصر ليشارك في تطوير القصور الملكية, وبعد انتهاء مهمته طلب أن يبقي, و تزوج و انجب و استقر, و كانت العمارة الإسلامية مدخلا ليس فقط ليبني مجده كمهندس, و لكن لتغيير مجري حياته كلها بعد أن أشهر إسلامه عام1946 و اختار أن يفعل ذلك في صحن مسجد المرسي أبي العباس.
--
مصادر:( محمد عادل روز اليوسف),( مقالات دكتور حسن مؤنس),( سلسلة مشاهير العمارة), موسوعة ويكبيديا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة