في الوضع الوطني الفلسطيني اليوم، بات يتعايش الكثير من أنماط كفاحية وغير كفاحية، في ظل نمط قيادي سياسوي، عماده المزيد من الإفقار السياسي
في الوضع الوطني الفلسطيني اليوم، بات يتعايش الكثير من أنماط كفاحية وغير كفاحية، في ظل نمط قيادي سياسوي، عماده المزيد من الإفقار السياسي، إلى جانب العجز والشلل المتواصل عن قيادة الفعل الكفاحي، لا سيما والمرحلة تشهد أحدث إبداعات هبة انتفاضية شبابية وعامة تشهدها العاصمة التاريخية للوطن الفلسطيني، إلى جانب فعاليات كفاحية تشهدها المدن والبلدات والقرى والمخيمات على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، فلا تجد والحال على ما بلغته اليوم من تردٍّ، من يسعى الى أي نوع من الإثمار السياسي الذي انعدمت مقوماته منذ اتفاقات أوسلو وحتى اللحظة.
منذ أكثر من عشرين عاماً و «نحس أوسلو» يواصل منع أي تقدم في مفاوضات لم يعد لها من معنى سوى إضاعة الوقت، واللعب على سيف المماطلة الإسرائيلي الذي باتت الحكومات والائتلافات المتعاقبة تجيده أيما إجادة، فلا تجد من السلطة والقيادة الفلسطينية سوى تكرار الأوهام نفسها والرهان عليها، وهي تعرف أن حال الإثمار السياسي باتت خلفنا في أعقاب انتفاضتين وهبة، كانتا إلى جانب إرهاصات الثالثة، يمكن أن تنقلنا إلى مآل آخر، لولا وضع الإفقار السياسي الذي بات يهيمن على حركة نمط غير كفاحي، يقود الوضع الوطني الفلسطيني، وقد جر خلفه فصائل الحركة الوطنية على اختلاف انتماءاتها واتجاهاتها، مغرقاً إياها في «ستاتيكو» لم يعد من السهل الخروج منه، بعد هذا الركود والجمود والشلل والعجز الذي وقعت في براثنه، وتحت تأثيرات مفاعيله الضارة كامل قوى الحركة الوطنية، وهي تنحني لعواصف الانشقاقات الداخلية، وزلازل زعزعة الوضع العربي برمته في ظل الصراعات الإقليمية والدولية المتنامية، وهي تقود بدورها إلى واقع تفتيتي متفجر على إيقاع انقسامات طائفية ومذهبية وإثنية، وربما قومية، طالما أن من يسعى الى إثارة «الفتن الدينية» هي قوى قومية بالأساس، تمتلك تطلعات إمبراطورية، دافعها اليوم الهيمنة الإقليمية، ولو بالتشارك مع قوى دولية ذات طابع إمبريالي، لا يهمها سوى تحقيق طموحات هيمنتها الأحادية أو الثنائية أو متعددة الأقطاب، على ما أضحت الحال اليوم، في ظل نظام دولي غير مستقر، إحدى سماته الأبرز التقلبات والانقلابات المزاجية والاستنسابية.
لقد تراجعت الحركة الوطنية الفلسطينية، على وقع التراجعات العربية أمام قوى الاستبداد السلطوي من جهة، وأمام قوى الاستبداد الديني من جهة أخرى، بحيث بات التهرب الإسرائيلي من استحقاقات مفاوضاته مع الجانب الفلسطيني، وتهرب القوى الدولية ومعها الإقليمية مما يفترض أنه دورها لدعم مسيرة التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية، وانشغالات الجميع بحروب الفتنة والهيمنة لتكريس تغوّل الاستبداد السلطوي والأهلي، في منطقة أحوج ما تكون إلى الحرية واستعادة الكرامة وشرف المواطنية، الذي يجري انتهاكه يومياً، على أيدي أنظمة تخصصت بهذا النوع من سلب إرادات الناس وحقوقها، ومصادرة أصواتها واستبعادها من تقرير مصائرها بالسياسة وعبر المشاركة السياسية، وليس عبر اقتسام السجون والمنافي لكل من أراد أو يريد أو يطالب بتلك المشاركة.
كذلك، شكّل الاستغراق الفلسطيني بالوضع العربي، والغرق في معمعان إشكالاته وتعقيداته وتداخلاته، الفرصة الأثمن لحكومة الاحتلال الإسرائيلي من أجل التهرب مما رتبته كامل الاتفاقات عليها من مسؤوليات اقتصادية وسياسية وتجارية، بحيث بات الأمني يتقدم على كل ما عداه، وكأن وظيفة السلطة الفلسطينية هي هذا الشكل من التنسيق الأمني ليس إلا، دفاعاً عن الاحتلال في مواجهة شعب يعاني من الحصار والاحتلال والقمع والإرهاب ومصادرة أراضيه ومنعه من إقامة ما يؤويه على أرضه وفي وطنه، من قبيل ما يجري في النقب (قرية العراقيب) نموذجاً.
أما الآن وفي ظل الاستفراد الإسرائيلي بالوضع الوطني الفلسطيني، فإن المفاوضات ليست هي المخرج الوحيد من المأزق، في الوقت الذي قد تشكل الهبة الانتفاضية الراهنة مدخلاً نحو الخروج من استراتيجيات العدم الكفاحي، وبالتالي إعادة بناء الوضع الوطني الفلسطيني على أسس كفاحية جديدة، تمهّد لنوع من الإثمار السياسي الجاد وغير العبثي، بدل الاستمرار في طريق الإفقار السياسي الذي لا يمكنه إلا أن يجلب الويلات، في واقع لا تنقصه الويلات أو الولولات على ما انقضى من زمن أو أزمان ولّت ولن تعود.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة