العملية السياسية في سورية هي الضحية الرئيسية للتدخل الروسي الذي بدأ في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وليس الإرهاب،
العملية السياسية في سورية هي الضحية الرئيسية للتدخل الروسي الذي بدأ في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وليس الإرهاب، لا سيما أن روسيا لا تقدّم نفسها الى حد الآن سوى لاعبة لدور الشرطي الذي يريد فرض شروطه بالقوة، حتى أنه مستعدّ لاستعمال كل أسلحته المُتاحة في سبيل تحقيق هذا الهدف، وقد أعلن المسؤولون الروس ذلك تكراراً وبصراحة.
أما الهدف الحقيقي من وراء الحركة التي تقوم بها الديبلوماسية الروسية، فيتوقّف على ترجمة الضغط العسكري إلى حل وحيد وهو تمكين النظام من إعادة حكم سورية أو جزء كبير منها، وتحويل هذا النظام إلى رأس جسر تعبر من خلاله روسيا إلى قضايا المنطقة والعالم.
لقد فرض الحضور الروسي قواعد جديدة على الإطار السياسي الذي بدأ مع «جنيف واحد»، فوزير الخارجية الروسي بعدما كان يسترق الرغبة الأميركية في إشراكه بدور ما قبل مؤتمر جنيف الأول، وأمضى كل الفترة السابقة يتحايل للتفلّت من بنوده الواضحة لجهة المرحلة الانتقالية والصلاحيات التنفيذية الكاملة، صار الآن يشترط التدخل بكل تفاصيل المحادثات الجاري ترتيبها بين النظام والمعارضة، ويهتم بشكلها وطبيعة العناصر الممثلة للأطراف وبرنامج العمل المطروح، مفترضاً أن الإضافة العسكرية التي أمّنها حضوره المباشر تتيح له إدارة كاملة للعملية السياسية، هذا عدا رغبته في تصنيف كل من يعارضه بالإرهاب. والواجب اليوم، أصبح أن تقبل روسيا بمن يجب أن يجلس الى طاولة الحوار لا النظام!.
طبعاً روسيا تمسك بورقة بشار الأسد وبإمكان فرض الإملاءات على الإيرانيين، ما يؤهلها لأن تكون وصيّة على النظام وميليشياته، وهنا تكمن أفضلية الموقف الروسي الذي يُعوّض الدور المُفترض أن تلعبه، وهو دور الوسيط المقبول من جميع الأطراف.
لكن الرهان على ذلك إلى ماذا أفضى؟ أزعم أنه عندما كان كثر من المسؤولين العرب يراهنون على تغيّر في الموقف الروسي، ويتفاءلون ببعض التصريحات الملتبسة للمسؤولين الروس تجاه هذه المسألة، كانت روسيا تتحضر للتدخل العسكري في سورية لحماية الأسد، بعدما كانت تقتصر حمايتها له على الفيتو في مجلس الأمن. وأزعم أنه حتى بعد التدخل العسكري الروسي، أصرّ هؤلاء على قراءة الدور الروسي من زاوية أنه ينافس إيران وقادر على إزاحة الأسد في ما لو أجريت صفقة مع بوتين.
الواقع أن الحل السياسي في سورية يشترط التوازن بين القوى كإطار تمهيدي للمفاوضات، لكن عن أي قوى نتحدث إذا أخذت روسيا على عاتقها أمور الميدان بكل تفاصيله، إلى الحدّ الذي يدفع بوتين الى الانشغال شخصياً بتفاصيل المعارك والتصفيات التي تقوم بها قواته.
وعلى عكس ما يعتقده البعض من أن روسيا تستعجل الحل السياسي، فالظاهر أن الأمر ليس بهذا التبسيط. فتأمين الوجود الروسي في سورية يفترض إعادة صياغة للموقف الروسي تجاه مجمل ملفات المنطقة من اليمن إلى العراق وفلسطين ولبنان، وهذا ما يُسقط من الحسبان استعجال الروس للحل السياسي تحت وطأة الضغوط الاقتصادية التي يعانون منها نتيجة العقوبات. فالروس يقاتلون في سورية وفي ذهنهم صيغة واحدة للحل السياسي، صيغة تقوم على استنساخ النموذج الشيشاني وتنصيب أدوات للحكم شبيهة بعائلة قديروف التي تُكن الولاء لمخابراتهم، وذلك مع الأسد الذي يضمن التقاطع مع مصلحة إيران أو من دونه حتى، ومع كل سورية أو بجزء منها فقط. إضافة إلى ذلك، فسورية التي يقاتلون لأجلها ليست بالنسبة إليهم قاعدة عسكرية أو مرفأً يريدون حمايته، بل هي نظام محلّي ملحق بهم، ومنظومة إقليمية تتبعهم. وهذان الأمران، النظام والمنظومة، يتيحان لروسيا الإطلالة على التوازن الدولي من حوض البحر المتوسط، الذي هو قلب العالم وحيث في الإمكان تظهير الضعف الأميركي من خلال الرغبة التي أبدتها إدارة أوباما في عدم التورط في شكل مباشر.
إنه الطموح الذي أطلقه بوتين في استراتيجيته والهادف إلى تعديل التوازن الدولي في العالم. فالحرب الدائرة في سوريا أتاحت للرئيس بوتين صياغة نهجه الإمبريالي في عالم أخذته الولايات المتحدة باتجاه الفراغات الناشئة هنا وهناك، نتيجة التردد الذي طبع عهود الرئيس باراك أوباما، وعدم امتلاك استراتيجيات واضحة تجاه ملفات دولية كثيرة عهدت الإدارات الأميركية المتعاقبة بمعالجتها أو إبقاء ملفاتها الساخنة بيدها على الأقل.
وقد أتت الهجمة الروسية على منطقة الشرق الأوسط نتيجة لذلك، وتعبيراً عن فائض في طموح القيادة الحالية وثقة زائدة بالنفس قياساً الى المكاسب التي حققها الروس في القرم وعلى الحدود مع أوكرانيا، وانتهاج الغرب سياسة مرنة يتضح خلالها عدم الرغبة في المجابهة. وكما وعت إيران طيلة عهد الرئيس أوباما، أن الإدارة الأميركية أزالت العصا من خياراتها ما أتاح لها الانقضاض على كل ساحات المنطقة، كذلك يعي بوتين ألا عصا بيد الأميركيين الذين يقتصر الأمر لديهم على ديبلوماسية ناشطة لا تؤتي شيئاً في القياسات الاستراتيجية. وبالتالي، أمام قيادة لا تأبه للبعد الاقتصادي أو لمستوى معيشة مواطنيها، تصبح العقوبات التي تشكل سلاح الغرب الوحيد تجاه روسيا ليست ذات شأن مُعتبر على المدى القريب، إنما بالعكس تدفع روسيا إلى انتهاج سياسات تخفي منطلقات عدوانية، وهذا تحديداً ما يصيب سوريا اليوم ويمنع الحل السياسي.
إذاً، المسألة تتعلق بضرورة تغيير روسيا سلوكها في سورية تماماً كما كانت الإدارة الأميركية تطالب إيران بتغيير سلوكها في المنطقة. طبعاً، مطالبة كهذه لم تأخذ مكانها في الأدبيات الديبلوماسية، لأن الأميركيين يبحثون عن سبل للاستفادة من دخول روسيا إلى الملف السوري ويأملون منها إقناع الأسد بالتخلّي عن السلطة، وبعض العرب تطربهم أخبار التناقضات الروسية مع إيران!.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة