السفينة الغرقى يتشبث الركاب بربانها حتى لو كان هو المسؤول حتى يوصلهم إلى بر الأمان ثم يبدأ الحساب أو لا يبقى من ذكراه شىء
السفينة الغرقى يتشبث الركاب بربانها حتى لو كان هو المسؤول حتى يوصلهم إلى بر الأمان ثم يبدأ الحساب أو لا يبقى من ذكراه شىء أو يحاسبه التاريخ. وبقدر ما يكون الصعود يكون السقوط. والصعود على حائط متكسر ينتهى إلى السقوط على أكوام التراب.
والغضب، حقيقة أو تمثيلاً، والتهديد بترك المنزل عادة مصرية مازالت مستمرة. والأمل فى النصر رد فعل على وقوع الهزيمة. وتحمل المسؤولية فى لحظات العسر بطولة يظهرها ابن البلد أمام سكان الحارة. والبطل الأوحد يتخلى عن دور البطولة إلى غيره من الأبطال. فقد أعطى كل ما لديه، ولم يبق لديه شىء. يتنحى بإرادته لغيره. وأعمار الدول ونظم الحكم مثل أعمار الأفراد. إذ ينتحر القائد المهزوم، قائد الجيش إحساسًا بالعار أو يترك الساحة لآخر مثل القائد السياسى وكما حدث بعد هزيمة 1967.
أما فى حالة عدم وجود ربان آخر للسفينة وزرع شخصية الربان الأوحد المخلص فإن التهديد بالتنحى يكون هو الباقى له حتى يتمسك به الشعب، بالرغم من الهزيمة، فنصف البطل المعلوم أفضل من البطل المجهول. والقائد المغامر أفضل من القائد الذى لم يسمع عنه أحد، والتمسك بالغارق أفضل من مدع آخر قد يصيبه نفس المصير. وفى الأمثال العامية «اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش».
وهنا تأتى فكرة التنحى حتى تزداد السفينة اهتزازا وتتهدد بالغرق أكثر فأكثر. والشعب عاطفى. تعود على رؤية وجه وسماع صوت وإلقاء نكات حتى لو كانت بالعامية. لحظة فريدة فى التاريخ أن يفترق الحبيب عن حبيبه إبقاء للذرية وتجنيبها اليتم. ومن يدرى ماذا يخبئ الزمان فى المستقبل لحبيبين جديدين، ومازالت الأغنية القديمة تصدح فى الآذان «يا حبيبتى يا مصر»، «مصر التى فى خاطرى وفى فمى»، «مصر، مصر، مصر، أمنا». ويتراجع البطل المهزوم عن تهديده بالتنحى بعد أن حرك عواطف الناس نحوه، وتوحيده بينه وبين البلد، ورمى الهزيمة على القدر «لا يغنى حذر من قدر». وقد تراكمت مشاكل البلاد فى العقود الأخيرة. واستعصت على الحل من أى رئيس لها أتى بعد انتخاب ديمقراطى أو ثورة أو انقلاب. وفى كل الحالات يوحد الرئيس بينه وبين البلاد ما دام هو المنقذ الأوحد لها.
وتنزل الملايين إلى الشوارع تطالب بعودة الزعيم المتنحى والاستمرار فى قيادة الأمة. حدث ذلك فى 9، 10 يونيو 1967 حتى غطى على هزيمة 5 يونيو من ذات العام. وتحولت الهزيمة إلى نصر. والجماهير مستعدة أن تعيد الكَرّة. وهى أيضا جماهير يونيو التى نزلت من قبل فى 30 يونيو 2013 لتصحيح ثورة يناير 2011، والثورة تتماوج بين عسكريين وإسلاميين. وبعد أن تتمسك الجماهير بقائدها بعد أن ظنت أن الزمن أقوى منه، وأن مشاكل مصر المتراكمة فى العقود الأخيرة قد تجاوزته.
لم تحدث هزيمة عسكرية كاسحة اليوم كما حدثت فى يونيو 1967، ولكن هناك إحساسا عاما عند الناس بخيبة الأمل فى ثورة يناير 2011. وقد مضت الآن خمس سنوات والإحساس بالهزيمة يزداد عمقا. وتسيل الدماء بالحروب الداخلية والتفجيرات وقتل الأبرياء، ولا فرق بين جندى وشرطى وطالب وبدوى، والإحساس العام بعدم الأمان دون معرفة من أين تأتى الضربة القادمة وكيف. وتزيد الأسعار إلى أكثر من الضعف للمواد الغذائية التى عليها قوت الشعب. وتنتشر روايات الفساد بالمليارات من الوزراء ورجال الأعمال وغسيل الأموال. ويزداد العنف الاجتماعى بالقتل، الأم لولديها ولزوجها حتى تتفرغ لعشيقها، والصديق لصديقه خلافا على دراهم معدودة. والانتخابات غير مقنعة بالامتناع عن التصويت فيها أو بعدد أحزابها ومرشحيها وقوائمها وأفرادها والإشراف عليها داخليا وخارجيا، وتدخل رأس المال السياسى علنا بثمن الأصوات نقدا أو عينا، فإطعام الجائع هو أفضل دعاية انتخابية. وكلها بتآلفاتها طريق إلى السلطة. وتتوالى الوعود بالإسكان الرخيص وإعادة بناء العشوائيات والمدارس والمستشفيات، ولا شىء يحدث منها. وتتوالى المشاريع الكبرى والصغرى حتى تصل إلى قامة مشاريع الستينيات مثل السد العالى والمدن الصناعية. وهى مشاريع لا نهاية لها، يشارك الشعب فيها برأسماله والشركات الأجنبية باستثماراتها. وكلها هزائم مدنية وليست بالضرورة هزيمة عسكرية كما حدث فى يونيو 1967.
يعيد التاريخ نفسه. ويخرج رصيد الذكريات، العلاقة العاطفية بين الحاكم والمحكومين. فالحاكم هو صمام الأمان. هو الحائط المنيع الذى يستند إليه الناس. وهو فى نفس الوقت الذى يمنع الناس من الحركة والتنفس الحر. وتتراكم تقارير الأمن عن سوء الأحوال فى البلاد كما توالت التقارير قبل يونيو 1967 قبل الهزيمة، وكلها تقارير سلبية. يأخذ بها الحاكم قبل أن يأخذ بتقارير الوزراء والإعلاميين التى تقوم فى معظمها على الكذب والمبالغات الإيجابية، وأن كل شىء على ما يرام، وأن ليس فى الإمكان أبدع مما كان. وتتراكم الكوارث داخليا وخارجيا. وقشة تفضل إحدى كفتى الميزان. وتظل السفينة الجديدة قائمة، والربان الجديد قائما. وتضيع الانفعالات، وتشتد الأزمات حتى يتم اليأس من الحاضر. ويكون المستقبل غامضا، لأنه لا يعتمد على مقوماته. فالحاضر مجرد صورة لأصل وجد من قبل فى 9، 10 يونيو 1967. وهناك فرق بين السياسة وبين العلاقات العامة. وفرق أيضا بين التحليل العلمى والإعلام.
وكما أعيد بناء الجيش بعد هزيمة 1967 وإرادة التنحى 9، 10 من نفس الشهر وخروج الملايين فى الشوارع تنادى القائد بالعودة فإن التهديد بالتنحى ولو بطريق غير مباشر يتطلب إعادة بناء المجتمع ومؤسساته بالتخلص من رجال الحكم السابق، والتخلص من رجال الأعمال السابقين، وتحقيق مبادئ ثورة يناير 2011 الأربعة: الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وإكمال ثورة 1952 والتحول من الضباط الأحرار إلى الشعب الحر، وما تلاها من تموجات ثورية، وصراع دموى بين الإسلاميين والعسكريين. وربما آن الأوان لتحقيق المصالحة الوطنية بين هاتين القوتين والتعاون معا فى تآلف مشترك، تحقيقا للشعار القديم للإسلاميين «مشاركة لا مغالبة». والتأسى بالتجربة التونسية، انسحاب الجيش إلى الثكنات وتآلف وطنى بين القوى السياسية وفى مقدمتها الاتحاد الوطنى للشغل، وعدم تدخل الجيش فى الحياة السياسية.
وإذا كانت العراق وسوريا واليمن وليبيا كدول وطنية قد انهارت وتفتتت شيعا وأحزابا وأعراقا ومذاهب، فإن مصر والمغرب والجزائر والأردن والسعودية مازالت قائمة. فإن الوعى الذاتى العربى قادر على الصمود أمام الأعاصير. حفظ الله مصر. ليس بالحل العسكرى وحده ولا بالعنف المدنى بل بالمصالحة الوطنية، المؤاخاة بين الأوس والخزرج. فإذا كانت السفينة غارقة أو فى طريقها إلى الغرق فليتعاون كل الركاب فى سداد أخرامها التى تدخل منها المياه قبل أن تمتلئ السفينة وتغرق بالجميع. ألا يوجد عاقل، والعقلاء كثير، من يفرش غطاء رأسه لتمسك كل قبيلة بطرف ويضع هو الحجر الأسود بيديه فى جدار الكعبة؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة