حاولت - قبل الشروع فى الكتابة ــ أن أتواصل مع بعض المختصين فى الشأن العراقى والمهتمين بالأدب، لكن لم تتوافر لديهم أيه معلومات
تم إعدامه أم لم يمت. شخص مغمور أم شاعر من طراز خاص. تعددت الروايات حول أحمد النعيمى صاحب قصيدة «نحن شعب لا يستحى» التى أدانت العراقيين جميعا دون استثناء والتى انتشرت بصوته على الإنترنت، خلال الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر الماضى ومع بداية العام الجديد. نفهم من الجدل الدائر أن النعيمى ينتمى للعشائر السنية وأن خبر شنقه بالرافعة على الطريقة الإيرانية بسبب القصيدة جاء لأول مرة على حساب تويتر الخاص بالشاعرة الإماراتية فواغى القاسمى، ثم اعتذرت عنه.
تداولت عشرات المواقع صورا قيل إنها أخذت عند شنق الشاعر، دون بيان مكان أخذ الصور ولا توقيتها، فعلق عليها البعض بأنها لمواطن إيرانى أعدم قبل عدة سنوات لجريمة اغتصاب أو سرقة أو ما شابه ذلك. كما نفى رئيس اتحاد الكتاب العراقى ــ فاضل ثامر ــ خبر الإعدام، بعد أيام، وقال إنه لم يسمع به شخصيا وكذلك مسئولو مركز اتحاد الأدباء فى بغداد. هذا لا يمنع أن القصيدة مؤثرة وكذا طريقة إلقائها وكلماتها التى تقطر صدقا وحزنا، حتى لو اعترض البعض على ما جاء فيها من أغلاط لغوية أو صياغة إنشائية.
لا نعرف للشاعر أبياتا أخرى، مهما حاولنا البحث على الإنترنت (على الأقل بالنسبة لغير العراقيين)، ولا معلومات حول أهله أو مكان سكنه، فقط يبقى انتماؤه السنى هو العلامة الفارقة والفاصلة، فى وقت صارت فيه المذاهب هى لب الموضوع واختلاف الطائفة مبررا للقتل. لا نفهم أيضا لماذا ظهرت القصيدة فى هذا التوقيت تحديدا، رغم توافر تسجيل سابق لها بصوت السيدة مريم نور فى برنامج تليفزيونى يرجع تاريخه للعام 2014. ربما أضافت صور الشنق ــ غير المؤكدة على الإطلاق ــ بعدا دراميا إضافيا للقصيدة، وربما لتأجج الصراع السنى ــ الشيعى فى المنطقة بأسرها، لكن الشىء المؤكد هو قدرة الإنترنت ومستخدميه على خلق أبطال وفرزهم وإعادة تصنيعهم بسرعة كبيرة.
***
والسؤال هنا: هل يتم ذلك بتلقائية أم هناك من يلتقط الخيط وينسج حوله؟ نعم، نحن فى منطقة تهوى وتجيد صناعة الأبطال وإعادة تخليقهم، فنحن متيمون بالأساطير منذ القدم وبارعون فى كتابتها ونشرها وتصديقها، وهذا بالطبع يلعب دورا هاما. نعم، القصيدة تشفى غليل المواطن العربى العادى أينما كان فقد جاء فيها: «نحن شعب لا يستحى. ألسنا من بايع الحسين وخناه؟ ألم تكن قلوبنا معه وبسيوفنا ذبحناه؟ ألم نبك الحسن بعد أن سممناه؟ (..) نحن قطاع الطرق وخونة الدار. نهدر دم المسلم ونهجم على الجار. نعتمر عمائم بيضاء وسوداء وما تحتهما عار.(..) نحن خدم الحسينيات والجوامع والمساجد والكنائس والملاهى والبارات ونحن أيضا أتباع الشيطان تحت السروال. نحن شعب لا يستحى. قاتلنا إيران مع صدام. وحاربنا مع إيران ضد صدام. بربكم هل رأيتم كهذا الحجم من الانفصام (...) حتى لو كنا أول من سن القوانين وصان الحرية فى بابل، فنحن أيضا أول شعب ذبح أبنائه على الهوية ورمى جثثهم فى المزابل (...) شواربنا للزينة ورجولتنا عورة العورات وأكبر كذبة ما يسمى بالكرامة والكبرياء».
المساحة قطعا لا تتسع للقصيدة كلها، لكن هذه المقتطفات وكلام الشاعر عن «كذبة ما يسمى بالكرامة والكبرياء» يمس الكثيرين ويدغدغ مشاعرهم. بعدها ينهى القصيدة بقوله «ملاحظة: من يريد أن يرمينى بأشنع الأوصاف وأقذر الصفات على ما كتبت فأنا أوافق فلن تكون الشتائم أكبر من شتيمة أن تكون عراقيا فى هذا الزمن وترى بأم عينيك ظلم وطغيان حفنة من اللصوص يقابله صمت شعبى عارم يبعث على التقيؤ والاشمئزاز والقرف».
***
الإدانة العارمة للجميع جعلت الكل يتنصل منه. لم يعد محسوبا على أحد، ما يعتبر جريمة فى حد ذاته بوقتنا هذا. البعض يهاجمه لأنه غير منتم والبعض يشعر بمرارة ما يقول ويعتبره لسان حاله. وبالتالى جاء مذموما محبوبا مكروها غامضا كأبطال الزمن الصعب، وانتشرت الأبيات كالنار فى الهشيم. وساعد على انتشارها فى العالم العربى وإحكام هالة البطولة حول الشاعر صحافة إلكترونية اكتفت بذكر الخبر ونقل الصور والشعر بسرعة، دون تحقق أو تمحيص.
حاولت - قبل الشروع فى الكتابة ــ أن أتواصل مع بعض المختصين فى الشأن العراقى والمهتمين بالأدب، لكن لم تتوافر لديهم أيه معلومات. توقعت أن يحاول أحد الصحفيين الموجودين بالداخل أو فى المنطقة العربية أن يجرى حديثا مع الشاعر أحمد النعيمى ــ إذا كان حيا- وهى ردة فعل طبيعية لأى شخص مهنى، لكن لم يحدث ذلك، ولم يرد ذكر أية محاولة شبيهة بأن يقول أحد الصحفيين مثلا إنه لم يعثر له على أثر أو بالعكس توجه إلى أهله واكتشف كذا وكذا. لا تنقيب، لا حب استطلاع، لا تأكد، لا تدقيق.. لا فائدة. نحن فعلا شعوب لا تستحى، مهما كان الرجل وأينما وجد، فهو على حق.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة