حق الاجتهاد حق أصيل في الإسلام. وهو حق يستند إلي العقل، فمن يريد التقدم ينبغي أن يفتح باب الاجتهاد علي مصراعيه
حق الاجتهاد حق أصيل في الإسلام. وهو حق يستند إلي العقل، فمن يريد التقدم ينبغي أن يفتح باب الاجتهاد علي مصراعيه دون أن يخشي الوقوع في الخطأ، فالخوف من الوقوع في الخطأ يحول دون الاجتهاد ويغلق أبواب العقل بما يفقد العقل حريته وقدرته علي الحركة، ولذلك فحق الاجتهاد مقرون بحق الخطأ، وكل تجارب الفكر العظيمة وفتوحاته الكبري، عبر تاريخ البشرية هي مسلسل متصل الحلقات من الصواب الذي يدفع إلي الأمام والخطأ الذي يدفع العقل إلي مراجعة نفسه، كي يمضي في سبيل الصواب مرة أخري. ولذلك يكون الحق في الخطأ (غير المقصود) دليلا علي حيوية العقل وحركته الدائمة صوب كماله واكتماله، فالعقول التي لا تخطئ هي العقول التي لا تفكر، وهي التي تنغلق علي نفسها، خشية أن يؤدي إعمالها العقل إلي الخطأ الذي هو السبيل إلي الصواب في كثير من الأحوال. ولذلك ذهب العقاد إلي أن التفكير فريضة إسلامية. وما التفكير سوي فعل تفكر وتدبر وتأمل، ومتابعة المقدمات للوصول إلي نتائج، وهذا هو الاجتهاد المشتق - لغة- من الجهد وبذل ما في الوسع للوصول من المعروف إلي غير المعروف. ولولا ذلك ما ذهب طه حسين إلي أن حق الخطأ حق مقترن بحق الصواب، فكلاهما جناحا طائر العقل في الوصول إلي الحقيقة. والأصل في ذلك كله حق الاجتهاد الذي شجعنا الرسول الكريم علي اتباعه عندما ترك لنا الحديث الذي رواه البخاري: «إذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد».
والمعني الواضح للحديث أن العالم مثاب في كل الأحوال: الإصابة أو عدم الإصابة. والمقصود بمضاعفة الإثابة في حالة الإصابة هو دفع العقل إلي الاجتهاد دون خوف أو انغلاق في التفكير، ولولا ذلك ما كان الإسلام دين العلم والمدنية. ودين التسامح في قبول كل اجتهاد جديد، والتشجيع علي الاجتهاد بصفة عامة، ما ظل ناتج هذا الاجتهاد في مصلحة الجماعة، ونفي الكهنوت عن رجال الدين، ونفي السلطة عن كل مؤسسة دينية، مهما يكن مسماها. وقرن هذا النفي بأوسع درجة من التسامح في قبول الاجتهاد والتشجيع عليه، وذلك في موازاة حسن الظن بالمسلم المجتهد، والنهي عن إساءة الظن به.
هكذا رووا عن مالك قوله: «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِل علي الإيمان ولم يحمل علي الكفر». ورووا عن الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ولكن للأسف، ابتلانا الله بكارهي الاجتهاد من أعداء العقل باسم الدين وأغلقوا الاجتهاد، طوال قرون عديدة من الهزائم والتحالفات بين رجال دين باعوا الدين في سبيل رضا حكام السوء، وتحالفت السلطة الدينية مع الاستبداد، فبرروا لأهل الظلم ظلمهم ولأهل الفساد فسادهم، واستقووا بهم علي الذين يحاولون أن يفتحوا أبواب الاجتهاد في الدين، فاخترعوا بدعة الحسبة التي ظلت سيفا علي رقاب المجتهدين. أما الأزهريون فقد اكتفوا بما عليه أكثرهم وكبار مشايخهم من سلفية، فعادوا التيارات العقلانية، وناصبوا ميراث محمد عبده الاعتزالي العداء، واستبدل شيخهم الحالي بالمعتزلة الأشعرية الماتريدية التي هي محاولة توفيقية، يمكن أن تقف مع السلفية ضد أي نزعة عقلانية جذرية أو اجتهاد ديني جسور، فكان الصدام مع القلة المستنيرة من الأزهر نفسه، ابتداء من عبد المعطي بيومي وليس انتهاء بسعد الدين الهلالي، وضاعت سدي دعوات أمثال محمود زقزوق إلي إعمال العقل في فهم النصوص القرآنية والائتساء بطريقة ابن رشد في التأويل.
وجاءت الثلاثون من يونيو بقيادة السيسي الذي أيده الشعب ومثقفوه، ورأوا فيه بشارة التقدم الذي يحلمون به. وكان من الطبيعي أن يدخل السيسي- ونحن وراءه- الحرب ضد الإرهاب الذي يبدأ من الإخوان المسلمين، ولا يتوقف عند داعش، مدعوما بأموال النفط القطري وسطوة السلفية، فكان لابد أن يدعو عبد الفتاح السيسي الأزهر إلي تجديد الخطاب الديني. والتجديد يعني فتح أبواب الاجتهاد علي مصراعيها. وهذا من أصعب الأمور وأقساها علي مشايخ الأزهر الذين وقفوا بالمرصاد لكل محاولات التجديد الجذري في أزهرهم. ولذلك ماطلوا الرئيس ولم يأخذوا دعوته إلي التجديد مأخذ الجد، وتناسوا دعوة الرئيس إلي التجديد وإحداث ثورة في الفكر. فواجه الرئيس مشايخ الأزهر في عام لاحق. وكان صريحا حاسما. ويبدو أنه أدرك أن خطاب الأزهر علي ما هو عليه هو جزء من المشكلة، سواء بكتبه التي لا يزال يدرسها الطلاب، أو بإصرار أغلب شيوخه علي اتّباعهم أمثال ابن تيمية الذي هو أصل الإرهاب. وقد ظهرت نتيجة ذلك في التقارب مع المجموعات السلفية والموافقة علي نشر أفكارها في كتب قادتها المعاصرين، وأشهرهم ياسر برهامي صاحب كتاب االمنة في شرح عقائد أهل السنة«، وظهر قبل ذلك في صياغة الدستور، حين تحالف ممثلو الأزهر والسلفية في رفض تحديد هوية مصر بأنها ادولة مدنية حديثةب واستبدلوا بها غيرها، في الوقت الذي خصوا الأزهر بمادة تجعل منه سلطة دينية، وليس في الإسلام سلطة دينية كما ذهب محمد عبده.
وقد أدرك كثير من المثقفين المدنيين أن تجديد الخطاب الديني قضية ثقافية بقدر ما هي دينية، وآمنوا أنهم منتدبون إلي تجديد الخطاب الديني بوصفه قضية مستقبل، فأخذوا بالكتابة في قضايا تجديد الخطاب الديني، وذلك في سلسلة تجمع ما بين حسن حنفي ومختار نوح، ونصر أبو زيد وسيد القمني، وغيرهم الذين برز منهم إسلام بحيري. وكان من الطبيعي أن يتصدي لهم كارهو التجديد، ويستغلوا دعوي الحسبة في قضايا التفريق بينهم وزوجاتهم (حالة نصر أبو زيد) أو عقابهم بالسجن (حالة إسلام بحيري) أو مصادرة كتبهم (حالة سيد القمني) أو تغريمهم ماليا (حالتي) أو عنف الرد عليهم وعدم التردد في تكفيرهم (حالة خالد منتصر). ورغم أن الدستور الأخير ينص علي حرية الفكر والإبداع، ويمنع أي عقاب سالب للحريات، فإن أعداء تجديد الخطاب الديني، وكارهي التيارات العقلانية الحديثة في الفكر، لا تزال تستخدم الحيل القانونية للحسبة في تكفير من تواتيهم الجرأة علي الكتابة في مجال الاجتهاد الديني. وآخر ضحايا المثقفين المدنيين في هذا المجال إسلام بحيري الذي تميز بجرأته المقرونة بالحدة الناتجة عن حماسته في تقديم إسلام يكون دينا للحضارة والمدنية. هكذا رفض إسلام بحيري نكاح الفتيات الصغيرات والموتي. ووقف ضد مشروعية اغتصاب النساء بعد قتل أزواجهن، وسخر من الذين حرموا علينا تهنئة المسيحيين بأعيادهم، مؤكدا مبادئ المواطنة في معانيها الدينية، رافضا تقديس البخاري وأمثاله من أصحاب الصحاح والمسانيد، ناقدا الرواية، متشككا في المرويات التي تخالف العقل. واستفاد إسلام من فاعلية أدوات الاتصال الحديثة، وقدم برنامجا علي قناة «القاهرة والناس».
ولم يكن من المنطقي أن يسكت عنه كارهو الاجتهاد من العاجزين عن تجديد الخطاب الديني في الأزهر، فناصبوا إسلام العداء، وأوعزوا إلي البعض بأن يتقدم بدعوي حسبة، ويتم الحكم علي إسلام بخمس سنوات، ويتقدم محامي إسلام باستئناف، فيخفف القاضي السنوات الخمس إلي سنة، معتمدا في ذلك علي مادة قانونية قديمة عن «ازدراء الأديان»، يرفضها دستور 2014 بكل بنوده الخاصة بالحريات. وهو الأمر الذي يعني أن الحبس الذي قضي علي إسلام غير دستوري. ومن المؤكد أن البرلمان الجديد سيعيد النظر في القوانين البالية السالبة للحقوق المدنية في قضية حرية الفكر. ولكن لا ينبغي للمثقفين أن ينتظروا تغيير القوانين البالية. وأثق أنها ستتغير، وإنما عليهم جميعا المطالبة بالإفراج الفوري عن إسلام بحيري، فكلنا إسلام بحيري ما دام مستقبل الوطن والحرص عليه دافعنا، كما أن ديننا ينتدبنا إلي تجديد خطابه.
وعدم الخوف من الاجتهاد في ذلك، فهذا هو قدرنا، وإلا وجدنا داعش في القاهرة، أو رأينا القاهرة وقد تحولت إلي عاصمة سلفية، وهذا ما لا يمكن أن يقبله مثقف وطني شريف.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة