"العين" تحاور الكاتب والشاعر عباس بيضون: النساء هن دائمًا عقل العالم وسويته
بات الشاعر اللبناني عباس بيضون، روائيًّا له "تحليل دم"، "ألبوم الخسارة"، "ساعة التخلي"، الشافيات".. وأخيرًا صدرت له "خريف البراءة".
بات الشاعر اللبناني عباس بيضون روائيًّا في رصيده "تحليل دم"، "ألبوم الخسارة"، "ساعة التخلي"، "الشافيات".. وها هو يُصدر روايته الجديدة "خريف البراءة" (دار الساقي – بيروت 2016). يتميز بيضون بطاقة لغوية لا تسهو عن الاعتبار الجمالي في القول والإنشاء والسرد، وهو في روايته الأخيرة، أكثر تحررًا ورشاقة وتمكنًا في النسق وفي البناء وفي التخييل والضبط، رواية سخية في وقائعها وفانتازياتها وإيحاءاتها، مغرية في القراءة لفرط حسيتها ولقوة زخمها الدرامي.
عن "خريف البراءة" كان حوارنا معه:
* لا أتحدث عن تبسيط أو تعقيد، إنما وحسب أظن أن "خريف البراءة" هي أسهل رواياتك للقراءة، هل تعمّدت ذلك؟
- قد أعيد السؤال إليك، يتراءى لي أن "خريف البراءة" أسهل رواياتي كتابة، ربما لأنها منذ البدء كانت رواية، بمعنى أنها تتغذى من نفسها أكثر، مما تستدعي أشياء أو أشخاصًا من خارجها، إنها رواية لا تحمل شيئًا من حياتي وربما مني، والأرجح أنني كنت فيها روائيًّا بمعنى ما، الرواية تأخذني وتتصل عبري، لكني أشعر دائمًا أنها أسهل من مشروعها، وأن ثمة مصدرًا داخليًا لها، يجعلها تتسلسل من دون مشقّة.
إذا قارنا الرواية بالشعر – وأنا أحترم تجنبك لسؤال من هذا النوع – أجد أن الرواية متاحة لتدخل الكاتب أكثر من الشعر، وأشعر مع ذلك، بأن الرواية فن لا يُبلغ، نحن لا نكتب روايات وإنما بروفات روائية، بحيث إننا لا نتقدم ولا نتأخر، كثيرًا أو قليلًا، في كتابتها.
* تبدأ الرواية بجريمة وتنتهي بجريمة، كأن تصفية الحسابات العائلية هي سمة كل رواياتك؟
- ليست فقط حسابات عائلية، المدن تبدأ بجريمة وتنتهي بجريمة، الجريمة لم تكن فقط مصدر الرواية، بل كانت تاريخ المكان، وكان عليها أن تتكرر لنستطيع أن نقفل الدائرة، أما العائلة، فهي أيضًا الصورة الرحمية والدموية للمجتمع، بالنسبة لي، آصرة الدم هي تمامًا مكان الجريمة ومكان الانتهاك ومكان الخيانة ومكان الانحراف، أجد أن الخلية العائلية هي تمامًا مركز التناقض، والتناقض واضح؛ لأنه يجري داخل الخلية نفسها، ما هو عائلي، بالنسبة لي، هو دموي، والعلاقات العائلية هي تمامًا هذه الصلة المتناقضة بعالمنا وبأنفسنا.
* في هذه الرواية أيضًا، أنت لا تفارق مدينة صور وحقبة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي (1982). هذا المكان وهذا الزمان، كأنهما عَودك الأبدي، شعرًا ونثرًا؟
- أريد أن أعترف أنني أعاني في هذه الرواية وفي غيرها من مسألة الزمان والمكان، ما من مكان هنا سوى مكان مجرد، حتى أنني اخترت له اسمًا في نهاية الرواية، أثناء كتابتي للرواية لم يكن أمامي أي مكان، عندما تقول، إن صُوْر هي دائمًا المنطلق، فلأنها المكان الوحيد الذي لا أحتاج إلى تخيله، أما الزمان فلي عقدة معه، أنا لا أتصور زمنًا متسلسلًا مؤرخًا، أعجز عن ذلك، وبما يتعلق بي، لا أستطيع أن أقرن حادثة بتاريخها، الذكريات والحوادث تجري عارية من الزمن، والأزمنة تتلاقى وتفترق من دون سبب زمني، هذا ما يجعلني أعتدي على المقوّمين الأساسيين للرواية، اللذين هما المكان والزمان، أو يجعل من روايتي تعويضًا عن فقداني هما، وأنا أستغرب حين لا يلاحظ القارئ هذا الخلل في أعمالي الروائية، لكن يعزيني أن الرواية الحديثة تقوم في بعض منها على هذه الانتهاكات.
* في رواياتك دومًا ثمة "بطل" لا يُنتبه إليه عادة، هو الكتب أو المكتبة.. وأيضًا نستدل على البيوت وعلى طباع بعض شخصياتك عبر كتبها أو مكتباتها؟
- نشأت في بيت فيه مكتبة، ولم يكن هذا في ذلك الحين اعتياديًا، ربما، لذلك هناك مكتبات في رواياتي، لكن هناك أيضًا قراء، لا أستطيع أن أبتعد عن نشأتي وأنا أكتب، أوظفها وأسترشد بها، ربما لأن الكتب أمر حيادي، بمعنى أنها ليست أشخاصًا حقيقيين، ولأنها لا تتكلم ولكن الآخرين يتكلمون عبرها، أن تتكلم في هذه الرواية عن تاجر كتب مثلًا، كأنك تحيل الكتب إلى شيء، إلى سلعة، وتتحرر بذلك منه، الكتاب في الرواية، قد يكون أنا، وقد أمرُّ عبره كما يمرّ هيتشكوك في أفلامه، أمرُّ من دون أن يلاحظني أحد، ربما تكون الكتب دَينًا أرده لطفولتي، على كل حال، بوعي أو من دون وعي، لا أستطيع أن أتخيل عالمًا بلا كتب.
* في بدايات الرواية وأنت تصف شخصية سامي، تتفتح فجأة عوالم فانتازية أقرب إلى عوالم "أليس في بلاد العجائب"، يتكرر ذلك على نحو أقل في مختلف فصولها.. يبدو الأمر تلبية لمتعة كتابية وتخييلية أكثر مما هو تلبية لمتطلبات سياق الرواية؟
- بالنسبة لي، الفانتازيا أمر ملازم، ليست المرة الأولى التي أستدعي فيها عوالم سحرية، في كل رواياتي، وبخاصة في "الشافيات"، هناك هذا الجانب، لا أستطيع أن أفسر قوة جذب الفانتازيا لي، لكني أظن أن الرواية تتحول شيئًا فشيئًا إلى عمل رمزي، بدءًا من الجريمة، التي هي الفانتازيا الكبرى في الرواية، مرورًا بعالم "سامي"، الذي هو تخييل للطفولة، كنت أيضًا هنا أستعيد بعضًا من طفولة قضيتها في الاستيهام وأحلام اليقظة.
لكن الفنتازيا غرض يتعدى ذلك، ههنا يمكن أن نتحدث عن الشعر، عن حاجة الرواية إلى أن تكون شعرية من دون شعر، وبخاصة من دون إنشاء شعري.
* مشهد الوليمة التي تقام في بيت الخال، ويحضرها المسلحون الفلسطينيون مع كلابهم، بدا ذروة في الفانتازيا الواقعية، كأنه كُتب في زمن مستقل عن زمن كتابة الرواية، مع ذلك، شحنها ببعد تصويري وشاعري.. هل لهذا المشهد من أصل واقعي؟ ثم هل هو تصفية حساب سياسي؟
- ليس لهذا المشهد أصل واقعي، إنه فانتازي بامتياز، يمكن أن نتكلم هنا عن فانتازيا الكراهية، وربما فانتازيا الحقد، هذا الفصل ثأر كامل من حقبة، وكُتب بحبر الكراهية، أظن أن الرواية كلها يمكن أن تكون ثأرًا، إنها رواية لا تراعي بعض شروط فن الرواية، لكن الشعر قد يوجد هنا، فهذا العالم لا يمكن أن يخرج من رتابته وعاديته على نحو آخر.
يختصر مشهد الوليمة تاريخًا، كما يغلي المشهد بتناقضات هي التي اكتشفناها فيما بعد بأنفسنا، إنه ثأر من الذات والبلاهة والعادية التي بدا فيها "أبو ثائر" وصحبه هو نوع من خجلنا من أنفسنا، وخجلنا من غفلتنا.
* رغم تعاطفنا مع بعض شخصياتك الرجالية، فإن الرجال هم دائمًا الفوضى والعنف والهدم.. والنساء هن مدبّرات العالم، هن من يجعلن الحياة تُطاق. مع ذلك، لا يخلو الأمر من التباس تجاههن: هن مبعث خوف وهن موضع شغف حارق، هل الغواية تكمن هنا؟
- ما أريد أن أقوله، إن النساء اللواتي كتبت عنهن في رواياتي، هن دائمًا عقل العالم وسويته، ليس هذا دفاعًا عن النساء ولا تبنيًا للنسوية، قل إنه شيء من كراهية النفس، والمرأة هي الآخر الموجود دائمًا ليعيد الأمور إلى سويتها، الآخر المرجو دائمًا والمنتظَر دائمًا، فيما يبقى الرجال (ولا أتكلم عن الرجال وإنما عن نفسي)، غارقون في معاركهم مع أنفسهم وعجزهم عن لجمها، في رواية "الشافيات"، أحب القراء النسويو الاتجاه مجريات الرواية، بدءًا من عنوانها اللافت وانتهاء بوقائعها.. لكن "سامية" في رواية "خريف البراءة" لا تقل تناقضًا عن "غسان" (بطل الرواية وراويها)، لكن تناقض سامية لا يبدو عاصفًا، بينما تناقض غسان يبدو أشبه بالبلادة والفصام، شخصياتي النسائية ليست مريضة، إنها لا تحتاج إلى أمراض لتحقق نفسها.
الأرجح، أن سامية مثلًا هي نموذج الغواية بسبب احتجاب ذلك وضمنيته، ولا تنسى أن الرواية أوديبية بوضوح.
* طوال الوقت كنت أتخيل "غسان" هو تحريف روائي لشخصيتك أنت؟
- نعم، قد يكون هذا صحيحًا، على الأقل، لا أستطيع أن أرفضه، في الواقع تعبت لأحرر غسان مني، فهدوء غسان وحياديته كان يمكن أن يجعلا منه صورة عني، لكنه تحرر مني في النهاية عندما ثار في وجه أبيه.
aXA6IDMuMTQ1LjE3Ny4xNzMg
جزيرة ام اند امز