"العين" في لقاء خاص مع "الثلاثي جبران":موسيقانا كالحب.. نقع فيها ولا نحدد مسارها
كانوا هناك.. ثلاثي جميل، يبتسم للأسفار البعيدة.. ثلاثي فريد، يبتعد بمسارات لحنية ويعود إلى جمهور شغوف ينتظر كل نوتة..
كانوا هناك.. ثلاثي جميل، يبتسم للأسفار البعيدة.. ثلاثي فريد، يبتعد بمسارات لحنية ويعود إلى جمهور شغوف ينتظر كل نوتة وكل مقطوعة وكل عشق الذي يتولد بين وتر وآخر.
كانوا هناك.. الثلاثي جبران الذي يبرع منذ اللحظة التي يعتلي فيها خشبة المسرح بسرقة إحساس كل فرد من الجمهور، ويخبئه في حضن عوده.. ويتركه هناك بين "تماس" و"مجاز" و"رندنة"..
ما شهدناه على مسرح "جزيرة العلم" في إمارة الشارقة، أبعد من التفاعل بين عازفين وجمهورهم، هو نوع من حوار بين تلك الآلات الحنونة والأصابع الطيعة والآذان المتعطشة لفن يصنعه من يعشقه ويحترفه ويحترمه.. نحن أمام ثلاثي يعزف فيتوحد في هالة موسيقية دفينة لا يسهل الوصول إليها..
ثلاثي، قد يجنن عشاقه إن عزف كما عادته كل على عوده.. لكنه يفقده عقله إن إجتمع على آلة واحدة. وها هم، سمير الأخ الكبير، ووسام الأوسط وعدنان الأصغر، يجتمعون على عود واحد ويعزفون عليهم في وقت واحد من دون أن يسقط منهم نوتة واحدة، ومن دون أن يتعدى أي منهم على مساحة عزف الآخر.. ثلاثي هم، وسداسي مع أيديهم وأحادي مع توحدهم.
من شاهدنا وسمعنا من على تلك الخشبة، ليسوا بعازفين يقدمون موسيقى راقية ومميزة جاءوا ليؤدوها أمام جمهورهم ويكملوا من بعدها حفلة ثانية وثالثة في بلاد أخرى أو قارة أخرى.. بل موسيقيين اعتلوا المسرح وفجروا عليه جملهم اللحنية وعلى أجندتهم هدف وحيد، أن يمتعوا مستمعيهم وينقلوا إليهم عشقهم لما يصنعون ويعزفون.. وهذا وحده كان كفيلا بأن يشعل المسرح ويلهب والقلوب والآذان.
صدى أصوات التصفيق ودندنات الجمهور وهمسهم ببن الفينة والأخرى "الله ويا عين ويا سلام"، ورد سمير جبران عليهم وعلى طلباتهم وحبهم بحب أكبر واستجابة.. يقول إن الفرقة نجحت بتخطي أي مسافة بين عازف ومستمعه.. وكونت معه فضاءً واسعا يتسع لكل الشغف المتبادل والمعبر عنه في الأمسية.
العين التقت الثلاثي جبران، وعازف الإيقاع المتميز يوسف حبيش، وتحدثت معهم عن النجاح بالعزف الآلاتي بعيداً من الغناء، والمستقبل ومحمود درويش والتجريب.. والتسويق.
بالرغم من العديد من الحفلات الناجحة التي تقدمونها في العالم العربي، إلا أن كثيرين يجدون أنكم لم تنالوا الشهرة التي تستحقون، هل لميل العالم العربي للموسيقى الغنائية بدل الآلتية، سبب في ذلك؟ أم أنها مشكلة تسويق؟ نسأل سمير جبران، الذي يقول: إن "انطلاقة تريو جبران كانت من فرنسا في حفل عام 2004، وقد يكون الجمهور الغربي أكثر إقبالاً على الموسيقى من الغناء، لهذا وللأسف الثلاثي معروف أكثر في الغرب من العالم العربي، وربما العالم العربي يستقبلنا اليوم بترحاب أكبر، كوننا "مستوردين" من الغرب، بالرغم من أننا نقدم موسيقى شرقية... وأقول إن الإعلام يتحمل جزءا من المسؤولية في عدم إيلاء الاهتمام الكافي بالفرق الموسيقية والموسيقى الآلتية التي نرى كل يوم أن جمهورها لا يقل أهمية عن جمهور الغناء... الجمهور نفسه يعطي العمل الموسيقي قيمة، لا الفنان فقط... هناك كثير من المستمعين الشغوفين بهذا النوع من الموسيقى في العالم العربي، لكن التقصير من الإعلام الذي لا يغطي هذه الحفلات الموسيقية ولا إصدارات موسيقيين يسعون لإنتاج موسيقى راقية".
الجمهور الذي يتحدث عنه سمير جبران، اشتعل حماسة عندما سافر بهم إلى زمن محمد عبد الوهاب مع "كل داه كان ليه"، مفسحا لهم المجال ليغنوا معه.. لكن بالرغم من ذلك، قرار الثلاثي جبران بعدم ضم صوت غنائي مازال قائما، على الرغم من مشاركتهم ضافر يوسف في "أسفار"... ويستبعد سمير جبران أن يقوم الثلاثي بإدخال صوت غنائي إلى أعمالهم، ويقول: "في بعض الأحيان أغني أنا في العرض، كما الليلة ولكن لا ننوي إدخال صوت غنائي، لأننا انطلقنا كموسيقيين آلاتيين وسنستمر على هذا النحو".
العزف من دون الغناء، ليس القرار الوحيد الذي اتخذته الفرقة، بل أيضاً عدم الاهتمام بتغريب الموسيقى الشرقية عن طريق التوزيع الهرموني، وهو ما يؤكده عدنان جبران الذي يلفت إلى أن "التريو سيستمر كما انطلق، يعزف على الآلات الشرقية، ولن يكون من السهل إدخال الموسيقى الغربية، وهو أمر ليس مطروحاً بالدرجة الأولى، ولم نسع أبدا لدمج بين الموسيقى العربية والغربية"... ويضيف: "قد تكون الكلمة توصل لأبعد بقليل من الموسيقى، لكن الموسيقى أيضا قد تؤول وتسمح لنا ألا نقول أمور مباشرة، فنعطي الفرصة للجمهور أن يحكي أو يعبر عن نفسه من خلالها".
لكن في المقابل عدنان يؤكد أن الفرقة "لا تقول "لا" لأي جديد، نحن نسير إلى الأمام ونسمح لأنفسنا أن تأخذنا اتجاهات جديدة.. موسيقانا كالحب، لا يمكن أن نحدد بشكل مسبق من سنحب وكيف شكله، الموسيقى بالنسبة إلينا هي أن نقع بحب الموسيقى.. لهذا لا بد أن نكون صادقين في ما نؤدي وما نقدم".
جوهر الثلاثي ليس في روعة ما يعزفه فقط، بل أيضاً في مرافقته للشاعر الراحل محمود درويش منذ منتصف التسعينات حتى وفاته، والعزف في أكثر من ثلاثين أمسية شعرية معه. وتعدت العلاقة مسألة مرافقة بالعزف فقط، إذ أن التريو يعتبر أن درويش الأب الروحي للجبرانيين... سمير جبران يقول: "تعلمنا من درويش كيف ننتمي إلى فلسطين لا أن نكون موسيقيين فلسطينيين، وأن تحكي موسيقانا عنا، ومن خلالها نوصل قضيتنا".
الثلاثي العربي العالمي، رسم لنفسه مكانة عالية في العالم، كمبدعين من فلسطين التي أنجبت إيليا سليمان وسميح القاسم، ومحمود درويش وابرهيم طوقان، وادوار سعيد، وغسان كنفاني واميل حبيبي وغيرهم.. لكن الفرقة، على شهرتها وعالميتها، تبدو لكثيرين أنها "تتمنع" عن نشر موسيقاها أكثر والتسويق لفنهم من خلال السوشال ميديا والفيديو كليب والدعاية، وكأنها في خروجها إلى جمهورها والتسويق لنفسها تختلف بشكل شبه كامل عن "السوق" وعما يتردد دوما أن هذا "ما يطلبه الجمهور".. فيستحيل أن نجد لهم فيديو كليب مثلاً، ومرد ذلك بحسب ما يقول سمير إلى "عدم قدرة الفيديو كليب على نقل إحساس الموسيقى، وأغلب الفيديوكليبات تركز على الشكل الخارجي والجسد وحركات العازف أو المغني، من دون أن يحمل نفس أحاسيس الموسيقى، إذن لا حاجة له.. إن كنا نريد أن نسوق صورة ووجه وجسد.. وتبدو موسيقانا مستهلكة، فهذا لا يعنينا".
الفن المستهلك هو ما يتحدث عنه عازف الإيقاع المتميز يوسف حبيش لـ"العين".. هو الذي يرى أن "العالم العربي غالباً، يتعامل مع الموسيقى كمسألة مستهلكة، وكمنتج كمالي ترفيهي فقط، وقد تكون بالنسبة للبعض أشبه بالمشروب الغازي المرافق لوجبة أساسية، لا أكثر، وهذه مشكلة حقيقية تؤثر على كل الإنتاج الموسيقى وتطوره"... يقول إن "الحالات الإستثنائية موجودة دوماً، لكن الواقع الطاغي يقول إن المجتمع والأفراد والمؤسسات التربوية والثقافية لا تبذل جهداً في تثقيف الأجيال على حب الموسيقى وتعلمها والتثقف بها، ويحزنني هذا الأمر خاصة وأنا أجد مؤسسات مهتمة بتدريس أطفال في النمسا على الموسيقى الشرقية!".
وحول إهتمام العالم العربي بالغناء آكثر من الموسيقى، يقول حبيش "في العالم العربي هناك ثقافة غنائية أكثر من الثقافة الموسيقية. والموسيقى لوحدها من دون غناء، لم تظهر إلا مع القصابجي ومن ثم عبد الوهاب وفريد الأطرش..". حبيش الذي أضفى بموسيقاه إيقاعاً جميلاً على الأمسية، يلفت إلى أن "اقتصار الأمسية على العزف من دون أن يرافق ذلك كلمات مغنية وسيطة بين كل الآلات، تجعل كل العزف أوضح وبالتالي تكون المهمة أصعب".
تنتهي الأمسية التي استطاع خلالها أربعة عازفين أن يبثوا الفرحة والحب في قلوب جمهور عاشق لهم، انتظرهم بعد نهاية الأمسية بشوق من سيلاقي حبيب... لهفتهم كانت تُرى بالعيون وحماستهم تلمس بحركاتهم وهم يتلفتون يمينا ويساراً ويرفعون نظرهم باتجاه مخرج المسرح..
هؤلاء الشبان والشابات لا ينتظرون نجم "بوب" ليحصلوا على توقيعه، أو نجمة يتابعون آخر أغنياتها وأزيائها... هؤلاء ينتظرون فرقة موسيقية لا سلاح بيدها إلا العود وألحانها.
ممتع مشهد الشابات والشبان وهم يتحلقون حول الثلاثي جبران وحول العازف يوسف حبيش، ليعبروا لهم عن إعجابهم بالحفل وعن كل مقطوعاتهم الموسيقية.. ينادونهم بالاسم، يذكرون لهم مقطوعاتهم المفضلة ويطالبونهم بالمزيد من الألبومات والحفلات.
هذا مشهد نادر في العالم العربي الذي قلما يعطي العزف الموسيقى الاهتمام الذي يستحق، وقلما نلتقي فيها بشباب وشابات لديهم الوقت والرغبة ليستمعوا إلى "موسيقى آلاتية" – Instrumental Music، تقدمها فرقة بحب خال من مبالغة.