مضت مائة عام على خرائط «سايكس بيكو» التي قسمت تركة الدولة العثمانية (منطقة الهلال الخصيب) ضمن اتفاق سري بين دولتين حليفتين
مضت مائة عام على خرائط «سايكس بيكو» التي قسمت تركة الدولة العثمانية (منطقة الهلال الخصيب) ضمن اتفاق سري بين دولتين حليفتين في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا وفرنسا) وضمن موافقة وتفاهم مع روسيا التي كانت تحت حكم القياصرة، والتي تعتبر جزءاً من الاتفاق في جانبه الأوروبي التركي. بعد كل تلك العقود، تعود إلينا الاتفاقية من خلال سلسلة نقاشات في الأوساط العالمية والغربية تتعلق بمدى التغييرات المتوقعة على الخريطة العربية التي رسمتها الدول الاستعمارية للعالم العربي. فبموجب اتفاقية «سايكس بيكو» تم تقسيم الأقاليم العثمانية بعشوائية إلى جغرافيا خاضعة إما لبريطانيا أو لفرنسا وستصبح دولاً فيما بعد: سورية ولبنان وفلسطين والعراق والأردن. لكن الأمر لم يتوقف عند «سايكس بيكو» بل قامت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى بلعب دور حاسم في تحديد حدود كيانات أساسية في منطقة الخليج الساحلية. من أشهر الاتفاقات ذلك الذي سمي بمؤتمر العجير الذي حدد في العام ١٩٢٢ حدود العراق والكويت والسعودية تجاه بعضها البعض. مائة عام انقضت بينما تطرح الآن الأسئلة عن الخرائط الجديدة والتغيرات الكبيرة التي تحوم في فضاء الشرق الأوسط.
لكن علينا أن ننتبه إلى أن غالبية الشعوب العربية تلتزم الخرائط التي توالدت معها الأجيال. لهذا فتغير الخرائط ممكن في حدود كما هو الأمر في شمال العراق حيث الأكراد، وهو ممكن في اليمن شمالاً وجنوباً بسبب تاريخ التقسيم في اليمن، لكنه في الوقت نفسه ليس حتمياً في كل من العراق وسورية. وبالرغم من كل التغيير الذي يحيط بنا منذ عام ٢٠١١، تبدو الخرائط القديمة صامدة في جوانب لكنها مهتزة في جوانب أخرى. فلا تونس بصدد تغيير خريطتها ولا دول الخليج والكويت والسعودية في هذا الصدد. بل قد تتغير خريطة ليبيا إلى ليبيا الشرقية والأخرى الغربية بسبب انهيار الدولة، لكن خريطة تونس ومصر لن تتغير، وذلك بغض النظر عن التطورات السياسية في كلا البلدين.
إن الخريطة التي يرسمها تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) تمثل واحدة من أكثر الخرائط تغيراً لأنها تشمل كلاً من سورية والعراق. فخريطة «الدولة الاسلامية» تبدو أكثر جدية، إذ بالرغم من تطرف طروحات «داعش»، فإن هذا التنظيم يطرح مشروعاً جدياً في المناطق التي يسيطر عليها، فهو منهمك ببناء مؤسسات قد تتحول إلى أكثر مما يبدو للعيان، وهو في الوقت نفسه يخوض قتالاً ضد سلسلة من الأعداء. لهذا قد يكون ذلك التغيير الذي يمثله تنظيم «الدولة الإسلامية» موقتاً، لأن مستقبله مرتبط بمدى قدرته على الحفاظ على الأرض التي سيطر عليها في كل من العراق وسورية. فلو نجح «داعش» في الحفاظ على تلك الأرض ستكون مدة وجوده واستقلاله في ذلك الإقليم العراقي السوري أطول. لكنه لو فشل فسيعود تنظيم «القاعدة» ليؤكد أن منهجه بعدم السيطرة على أرض والدفاع عنها لمدد طويلة هو الاستراتيجية الأصح. ولو وقع هذا التطور في ظل حالة البطالة والتهميش والتآكل التي تعم الإقليم العربي فمن الطبيعي أن يجذب الكثير من الجهاديين نحو «القاعدة» الذي سيعود إلى سابق قوته.
ولنتعامل مع تعقيدات المشهد الخاص بخريطة «الدولة الإسلامية»، فعندما اجتاح هذا التنظيم بقوات ضئيلة منطقة الموصل، هرب من أمامه باتجاه بغداد مئات الآلاف من المواطنين، ووفق بعض الإحصائيات تجاوز عددهم المليون لاجئ، معظمهم من السنّة، لكن الحكومة المركزية في العراق خشيت إدخالهم إلى بغداد خوفاً من تغير التركيبة السكانية. هذا الحادث يوضح مدى صعوبة البدائل، فمن هربوا من «داعش» لم يجدوا بديلاً في العراق. هذا يوضح عمق التقسيم المعنوي والنفسي الذي يصب في مصلحة «داعش». لكن مشكلة كل من العراق وسورية مرتبطة بصورة أعمق بصفات وخصائص الدولة الفاشلة وسوء الإدارة والفساد، وهذا بحد ذاته يفعل فعلاً مدمراً. فوفق لقاءات مع عاملين في العراق في برامج الامم المتحدة، فإن مستوى الفساد وسوء الادارة الذي يعم الوضع العراقي هو الأعلى، ويصب بصورة مباشرة في ظاهرة الانقسام وصمود «الدولة الإسلامية».
واذا حللنا المعارك الدائرة الآن في مناطق «الدولة الإسلامية»، نكتشف أن استعادة مدينة أو بلدة لمصلحة الحكومة في بغداد غير ممكنة مع تدميرها بالكامل. هكذا في هذا الصراع لا توجد بدائل للمواطنين السنّة مما يعني انهم سيبقون في حالة تحالف مع «الدولة الإسلامية» لفترة غير معلومة. وهذا يثير السؤال: هل تريد حكومة بغداد فعلاً أن تستعيد كل المناطق التي تقع تحت سلطة «الدولة الإسلامية»، وهل تستطيع الحفاظ على الأرض في ظل تسلح السنّة وضعف البدائل؟
من جهة أخرى، فإن العراق هو أكثر دولة في العالم فيها لاجئون داخليون (في حدود ستة ملايين)، بينما سورية هي أكثر دولة لديها لاجئون خارج البلاد، وهذا يطرح سؤالاً أكبر حول الخريطة الداخلية لسورية والعراق حتى لو ظل كيانهما موحداً، كما يطرح السؤال الأخطر: من سيعود من اللاجئين في الداخل والخارج (مثلاً من لبنان والأردن وتركيا) إلى المناطق نفسها ومتى؟ وما هو الأثر الذي سيخلفه النزاع في سورية والعراق لو استمر لفترات أطول؟
الواضح للعيان أن تنظيم «داعش» جمع تحت قيادته الكثير من المهمشين العرب من دول عربية وخليجية شتى. وما «إدارة التوحش» وفرضية إنشاء الدولة التي يطرحها «داعش» بأدبياتها إلا تطوير لرؤية «القاعدة» كتنظيم عالمي لا يملك دولة. صراع «الدولة الإسلامية» مع «القاعدة» هو صراع بين نهج يعتقد أنه آن الأوان للبدء بمشروع دولة بينما الثاني يعتقد أن الوقت لم يحن لذلك بعد. «الداعشية» مدرسة استنزاف، فهي تستنزف النظام العربي وتستنزف العراق وسورية وإيران والغرب كما تستنزف المعارضة السورية على كل صعيد، وتخوض معاركها على أكثر من جبهة ومع أكثر من عدو في الوقت نفسه. إنها قوة مسلحة لديها حسابات وقدرات وخطط، تسيطر عليها قيادة أساسها من الأجهزة التي عملت في نظام صدام حسين. لكن غياب البدائل يزيد من قدرة «داعش» على الحفاظ على قاعدته ومن ثم الصمود أمام دول تحاول تصفيته. إن قدرات «الدولة الاسلامية» في الإعلام وفي إخراج المشهد، وفي القتال الجاد، وفي محاولة البروز بوجه متوحش تجعل منه قوة مهمة تؤثر في خرائط الإقليم في المدى المنظور.
تنظيم «الدولة الاسلامية» هو الصورة الأخرى لخلع «الإخوان المسلمين» بواسطة الجيش في مصر عام ٢٠١٣. إن الفارق بين دخول التيار الإسلامي في الطريق السلمي للتغيير وبين اقتناع فئات كبيرة من الإسلاميين العرب بأن الطريق الشرعي والديموقراطي أغلق بعد سقوط الرئيس السابق محمد مرسي هو الفارق بين عامي ٢٠١٣ (عام التفاؤل) وعام ٢٠١٤ عام سيطرة «داعش» على أجزاء كبيرة من العراق. هذه الصورة هي امتداد للثورة المضادة في طول الاقليم وعرضه، لكنها أيضاً نتاج التدخل الايراني في كل من سورية والعراق واليمن ولبنان ونتاج إغلاق الطريق الإصلاحي والديموقراطي في العالم العربي مع استثناءات قليلة. الظاهرة إذاً في الجوهر مكونة من أبعاد مركبة ومسببات كثيرة، فوجود 4500 شاب اردني يقاتلون مع «داعش» يقدم دلالة كبيرة على تأثير التنظيم وقدراته وأثره على النظام العربي برمته. وفي الوقت نفسه، تتخوف دول الخليج والمملكة العربية السعودية من أن يتحول سقوط «الدولة الاسلامية» إلى مقدمة لمد نفوذ ايران في العراق. تناقضات كثيرة تتحكم بهذا الصراع.
الخريطة العربية النفسية والمعنوية والديموغرافية تتغير وتسهم بتآكل النظام العربي، لكنها ليست حالة ميؤوساً منها. ففي المرحلة القادمة سيكون الإصلاح السياسي والاقتصادي في ظل إعطاء مساحة ومكانة للشعوب هو الوحيد القادر على حماية المنطقة من مزيد من التآكل والتراجع. إن الإصلاح هو المدخل لإغلاق الفراغات المدمرة التي تصب لمصلحة التطرف من جهة ولمصلحة دول كبرى واقليمية كإيران وروسيا والولايات المتحدة من جهة أخرى. من دون مشروع عربي ديموقراطي توافقي وانساني سيبقى الإقليم أرض حروب ومفاجآت.
* ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة