ليس بدليل يميز العرب عن سائر خلق الله، أن تنتهى محاولات تفجير وتنظيم ثورات وحراكات الربيع العربى الكبرى إلى حالة الوهن واليأس ...
ليس بمستغرب، وليس بدليل يميز العرب عن سائر خلق الله، أن تنتهى محاولات تفجير وتنظيم ثورات وحراكات الربيع العربى الكبرى إلى حالة الوهن واليأس الذى وصلت إليه فى اللحظة العربية الراهنة. ذلك أن تاريخ الإنسانية ملىء بمثل تلك المحاولات ومثل تلك الإخفاقات فى كل مكان وفى كل العصور.
فالمهم ليس حصول الإخفاق، فهذا من طبيعة الاجتماع البشرى، ولكن المهم هو منع الاستمرار فى الإخفاق من جهة ومنع حصول إخفاقات جديدة من جهة أخرى. ومن أجل الخروج من الإخفاقات، ومنع مزيد منها سيحتاج الشباب والشابات العرب، قادة المستقبل، إلى الذهاب إلى أعماق المسألة السياسية فى أرض العرب. والغوص فى الإعماق يبرز، من ضمن ما يبرز، الملاحظات التالية:
أولا – تؤكد الدراسات التاريخية أنه عندما تدخل المجتمعات فى أزمة كبيرة ومعقدة وتطال الجميع، حتى فى المجتمعات المتقدمة حضاريا، فإن أولى الضحايا هى العقلانية. فجأة يفقد المجتمع توازنه الذهنى والنفسى، وبدلا من استعمال العقل والمنطق لمواجهة الأزمة يلجأ إلى وسائل لا منطقية. هذه الوسائل اللامنطقية تكون عادة مختزنة فى اللاوعى الجمعى منذ قديم الأزمنة، ولكنها تظهر على السطح إبان الأزمات.
المجتمعات العربية تمر الآن فى أزمات سياسية واقتصادية وأمنية حادة، الأمر الذى يجعلها قابلة، وهى التى فى الأصل تنقصها العقلانية وتهيمن على حياتها الانفعالات والمشاعر غير المنضبطة، لأن تدخل فى تلك الدوامة التى وصفناها فى الفقرات السابقة.
ثانيا ــ عندما يفقد المجتمع عقلانيته يفقد معه صبره، فيلجأ إلى وسائل وحلول هى مزيج من الخرافات والأساطير والشعوذة التى عفى عليها الزمن وما عادت صالحة لمواجهة أزمات الحاضر. الخوف هو أن تعود المجتمعات العربية المأزومة إلى أوهام سابقة فتجر بها من جديد.
والواقع هو أن هناك العديد من الجهات، وعلى الأخص بعض المنابر الإعلامية المشتراة والخاضعة لأصحاب المصالح، التى تحاول دفع المجتمعات العربية نحو الرجوع لاستعمال بعض الأوهام الماضية التى ثبت فى الماضى عدم فاعليتها.
***
لنأخذ الحملة القائمة على قدم وساق لإقناع الناس المواطنين بأنهم ليسوا مهيئين بعد للعب أدوار فاعلة ومؤثرة فى بناء مؤسسات ديموقراطية قادرة على أن تكون جزءا أساسيا من سلطة الدولة العربية. وبالتالى فإن المواطنين العرب يجب أن يعودوا إلى قناعاتهم السابقة بضرورة وجود القائد الفرد البطل المخلص الذى هو معبود الجماهير وملهمها. وبمعنى آخر الطلب من المواطنين أن لا يمارسوا حمل مسئولية تسيير أمور مجتمعاتهم التى لا يأتى من ورائها إلا وجع الدماغ والتعب والحياة الجادة.
إن فكرة البطل المنقذ، فى شكل إمام أو خليفة أو أمير أو رئيس قبيلة أو شخصية ساحرة، قد هيمنت على الحياة السياسية العربية منذ أقدم العصور. وأخطارها فى غالب الأوقات أكثر من مزاياها، بل ويمكن التعايش معها إذا وجد المجتمع النشط المستقل القادر على محاسبة البطل وجعله خادما عموميا وليس سيدا متسلطا.
لكن بالنسبة للمجتمعات العربية، فإن المطلوب هو بناؤها وتنظيمها لتكون قادرة على الفعل والمراقبة والمحاسبة وممارسة الحرية وحمل المسئولية، وذلك قبل الدخول فى دوامة البطولة والأبطال. والأمر نفسه ينطبق على الفرد العربى الذى يحتاج أن يربى على ممارسة الحرية الفردية والاستقلالية الذاتية فى الفكر وفى اتخاذ القرار بشأن شتى أمور مجتمعه. إذ أن الأفراد الأحرار المستقلين هم وحدهم القادرون على تكوين مجتمعات حرة مستقلة حاملة لمسئوليات حياتها.
هناك أمثلة كثيرة أخرى لأنواع من النكوص الذى يمكن أن تعود إليه المجتمعات، عندما تدخل فى أزمات تجعلها غير قادرة على استعمال العقل والمنطق والحكمة. وعبر كل التاريخ لعب الانتهازيون والزُبونيون أدوارا شريرة لإقناع الناس إبان الأزمات بالرجوع إلى نفس الوسائل القديمة التى أثبتت فشلها فى الماضى.
المطلوب من المفكرين والمثقفين من أصحاب الضمائر، الالتزام بمساعدة الوطن العربى وأمة العرب، للخروج من الجحيم الذى نعيشه، أن يعروا كل محاولة لإرجاع الناس المواطنين إلى استعمال شتى أنواع الأساطير والشعوذات السابقة.
ذلك أن شعارات الربيع العربى، من حرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية، كانت قمة العقلانية التى يجب أن تحقق بوسائل عقلانية جديدة خارج أوهام الماضى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة