نشرت صحيفة الإندبندت البريطانية الشهر الماضى، تقريرا حول أزمة البدانة المتفشية فى اسكتلندا، وصفت فيه البلاد بأنها غدت «عليلة»
قرأت أخبارا كثيرة ومتنوعة حول مسألة البدانة فى الفترة الماضية. فقد نشرت صحيفة الإندبندت البريطانية الشهر الماضى، تقريرا حول أزمة البدانة المتفشية فى اسكتلندا، وصفت فيه البلاد بأنها غدت «عليلة»، إذ أصبحت زيادة الوزن إلى حد المعاناة من المرض، أمرا شائعا بل وطبيعيا بين مواطنيها. قال التقرير إن ثلاثة أرباع الاسكتلنديين يخدعون أنفسهم إذ يرون طعامهم صحيا بينما يعانى ثلثاهم من وزن زائد. الصحيفة نفسها نشرت مقالة حول المطالبة بزيادة الضريبة على المشروبات المحلاة بالسكر للحد من تفاقم السمنة بين المواطنين البريطانيين، لكن القراء أغلبهم هاجموا الفكرة. حول الموضوع ذاته نشرت صحيفة عربية مقالة علمية شيقة، حوت دراسات عن وراثة الميل إلى اكتساب الوزن، واكتشافات عن تحور جينات الرجال الذين يعانون السمنة، بما قد ينعكس على أبنائهم فى المستقبل بحيث يصبحون مثلهم.
من بلد آخر جاء خبر طريف، برنامج تدريبى سوف يبدأه رجال الشرطة بهدف التغلب على مشكلة البدانة التى انتشرت بينهم. البلد هو ماليزيا التى تضم 122 ألف رجل شرطة، تعدى عشرة بالمائة منهم المعدلات المقبولة للوزن. ذكرنى هذا الخبر بصورة فوتوجرافية احتلت مساحة كبيرة فى مواقع التواصل الاجتماعى منذ شهور مضت. صورة أحد أفراد الشرطة المصرية بزيه الرسمي، وبطنه المنتفخ يمتد أمامه. انقسم الناس إزاء الصورة التى حملت تعليقات ساخرة بين مهاجم ومدافع. بين ناقم على السخرية وأصحابها، وبين مشارك فيها. كذلك برز من أيدوا وجود «الكرش» باعتباره إرثا قوميا تتناقله الأجيال. انطلق الرواة يبدعون قصصا حول الشرطي، جعلوه بطلا تارة ومريضا تارة أخرى، وتارة ثالثة رمزا للسلطة المتضخمة إذ أكد بعضهم أنه مرتش، وعزوا سمنته المفرطة إلى كثرة ما اكتنز من مال وما ابتلع من طعام.
***
منذ أسبوع تقريبا، نشرت صحيفة محلية خبرا جديدا عن صعود مصر إلى قائمة الدول الأعلى فى معدلات البدانة حول العالم، وبهذا الصعود أصبحت الدولة الأفريقية الوحيدة المنضمة إلى قائمة تتنافس فيها الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، برغم أن هناك بلدان أفريقية أخرى لا تزال تعلى من شأن الجسد الممتلئ، ففى بعض مناطق موريتانيا على سبيل المثال، ثمة معسكرات تقام خصيصا لتسمين الفتيات، حيث لا تتزوج المرأة إلا إذا نالت أرطال الشحم المكومة فى أنحاء جسدها إعجاب الرجل المتقدم للزواج، وحيث المرأة البدينة رمزٌ لمكانة العائلة الرفيعة ودليل على ثرائها.
الحقيقة أن البدانة على عكس ما هو شائع لا تعنى دوما وفرة فى الغذاء ورفاهة فى أسلوب الحياة، فبقدر ما تعكس الغنى وحجم الثروة فى بعض المجتمعات، وبقدر ما تعكس نمطا استهلاكيا واستسهاليا فى مجتمعات أخرى، فإنها قد تعكس أيضا مظهرا من مظاهر العوز والفقر المدقع. لا يعنى الصعود إلى قمة القائمة بطبيعة الحال أننا انتقلنا إلى مصاف الدول الغنية المرفهة، التى يأكل فيها الناس لملء أوقات الفراغ، أو لوجود فائض من الطعام، إنما هو مؤشرٌ لما للفقر من انعكاسات على أجساد الناس. مؤشر على ما يفعل بنا الغلاء، وما تؤول إليها محاولات التوفير واقتصاد المصروفات التى يلجأ أغلب المطحونين والكادحين إليها، والتى تمس أول ما تمس نوعية المأكل، فتنخفض بها إلى مرتبة شديدة التدنى والسوء. بين سندان الأسعار المرتفعة ومطرقة الاحتياجات الملحة المتعلقة بالتعليم والدروس والمواصلات والمظهر العام وأخيرا الصحة، تضطر شريحة كبرى من المواطنين إلى اتباع نمط غذائى تستخدم فيه أنواع رخيصة ورديئة من الطعام، تشبع لكنها لا تفيد. تملأ البدن شكلا وتضعفه جوهرا وتقوده إلى المرض الأكيد لاحقا.
***
فى حديقة عامة قال لها: «يا ريت تكونى رفيعة»،
فأجابت على الفور: «أنا فعلا عايزه أكون رفيعة»،
قال: «طب إجرى بقى عشان تبقى رفيعة»،
دفع كتفها بكفه الصغيرة، فانطلقت تعدو وهو وراءها. سمعت الحديث الذى دار بين طفل وطفلة لم يتجاوز أيهما السنوات الخمس من عمره، كلاهما فى طول واحد تقريبا، لهما جسدان متقاربان فى الحجم ولا تبدو على أحدهما آثار للبدانة. كان أفراد العائلتين المجتمعتين مشغولين بأحاديث وهموم الكبار، تبدو على جميعهم رقة الحال، ولا يسمعون الطفلين المندمجين فى ذاك الحوار المدهش الذى لا علاقة له بالمدرسة والأصحاب أو حتى بالألعاب والهواتف المحمولة والتطبيقات الإلكترونية، بل بإحساسهما بالقوام وبنظرتيهما إلى ما يجب أن يكون عليه وفقا لمقاييس الجمال فى ذهنيهما.
تذكرت امرأة من إحدى دول أمريكا اللاتينية، أقامت بيتا لعارضات الأزياء اللاتى لا يتمتعن بمستوى الرشاقة المطلوب، واللاتى تتسم أجسادهن بشىء من الاكتناز. لم تكن المرأة ساعية إلى تمجيد البدينات بحال، بل إلى كسر الصورة النمطية الغربية للنساء الجميلات، الصورة التى تصل ببعض المراهقات إلى طلب النحافة المفرطة حتى الموت.
***
قلت إن الصغيرة ستعدو وربما تظل تعدو لسنوات قادمة، لكنها قد لا تتمكن أبدا من الحفاظ على صحتها وجسمها كما تريد وكما يريد صاحبها، فسرعان ما تشب وتنضج وتصبح مسئولة عن أسرة وترهقها الأعباء الاقتصادية، وتضطر مثل نساء لا أول لهن ولا آخر إلى وضع أولويات ليس من بينها صحة البدن، اللهم إذا حدثت المعجزة وانقلبت الأحوال.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة