ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ كانت انبثاقا وتجليا نادراً لروح مصر، ولجوهر الإسلام والمسيحية، كانت ومضة من ومضات زمن ما وراء الزمن
بدون مجاملة، فليس الوقت وقت مجاملة، ولا هي من طبيعتي، وبدون حساسية و”طبطبة”، فالحقيقة صادمة، والأطراف انتهازيون بلداء، يقول فيهم الشاعر الكبير سيد حجاب ـ “فيها ناس واكلينّا بالنطاعة.. آل ايه وْعايزينّا نبقى طُوُعْ”، ووطننا أصبح معروضاً للبيع في سوق تجار الدين وتجار الوطنية، وكلاهما انتهازيون مخادعون.
ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ كانت انبثاقاً وتجلياً نادراً لروح مصر، ولجوهر الإسلام والمسيحية، كانت ومضة من ومضات زمن ما وراء الزمن، كان معجزةً إلهيةً، ومنحةً ربانيةً، كأن من كانوا فيها من عالم الملائكة، لكن تجار الدين من شياطين الإنس استشعروا الخطر، وخافوا من كساد تجارتهم، وضياعهم ملكهم، فما لبثوا إلا أن قتلوا مسيح مصر، وأطفأوا نور التجلي، وأهالوا التراب على أعظم معاني أخرجها الشعب المصري منذ دخول الإسلام إلى مصر، ثم خرج غربان الوطنية وتجارها، فحولوا النور إلى ظلام، والملائكة إلى شياطين، وأطفأوا كل الشموع في حضرة العذراء ومقام أم هاشم.
عادت مصر إلى سابق عهدها، وكأن الثمانية عشر يوما هي اللحظة التي وصفها لسان الدين إبن الخطيب في قوله “لم يكن وصْلُك إِلاّ حُلُمًاً في الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ”، وعدنا إلى دورة التاريخ المصري الحديث؛ التي تعاملنا كحبوب القمح؛ من المستحيل أن تنجو من الرحى، في حلقة مغلقة مأسوية؛ وصفها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي في إحدى أغنيات مسلسل “الرحايا: حجر القلوب” بقوله: “بين الضلام والنور.. بين المسا والضحى/ شمس الزمان بتدور .. يا جايه يا مروحه/ يا أبو الجناح مكسور.. كان حلم بس إنصحى/ والقمح بيدور يدور.. ويرجع لقلب الرحى”.
ثورة ٢٥ يناير كانت حلماً، ولكنّ الحلم ذاته، كره أن يكتمل؛ فتيقظ قبل أن يستيقظ الحالم به، أي أنه “إنصحى” كما يقول الأبنودي في صياغة عبقرية تختصر العديد من الجُمَل في كلمة واحدة، هذا الحلم الأسطوري النادر لخصتُه ـ في لحظة صفاء نفسي قبل أن تعشعش الغربان والبوم في كل أرجاء مصرـ وصغته مختصراً في مجموعة تغريدات على “تويتر” في شهر يناير ٢٠١٢؛ وهنا سوف أعود لهذه التغريدات وأعيد صياغتها بنفس معانيها مع تغيير بعض صياغاتها.
١- ثورة ٢٥ يناير كانت لحظة انفجار المرجل الذي غَلَىَ فيه مبارك شعب مصر على مدى ثلاثين عاما، يوقد النار تحتهم بدون توقف، يسلقهم في عرقهم، ثم جاءت ثورة يناير لتفتح ثقباً في هذا القِدْرْ اللعين، ثم انفجر؛ فخرج الشعب للفضاء المفتوح لأول مرة منذ انتفاضة يناير ١٩٧٧.
٢- كانت فعلاً حضارياً تلقائياً؛ لم يصنعه أحد، ولم يفجُّره أحد، ولم يقدُّه أحد، ولم يتوقع حدوثه أي أحد، ثم جاء الانتهازيون ليدعوا صناعة الحلم ويتاجروا به.
٣- قدمت ثورة ٢٥ يناير نموذجاً فريداً للمظاهرات؛ غير مسبوق؛ سوف يُغِّير طبيعة المظاهرات والثورات في العالم؛ فالمظاهرات تتحرك من مكان لآخر، ومظاهرات ميدان التحرير تحتمي بالمكان، وتحتله وتتوسع به ومعه وتوسِّعه.
٤- المظاهرات محددة بوقت، والتحرير وقته مفتوح.. المظاهرات فعل متوتر غاضب والثورة المصرية ساخرة ضاحكة.. المظاهرات يشارك فيها النشطاء، والتحرير كان مزاراً للزواج والتقاط الصور.. الثورات عنيفة والمصرية مسالمة.
٥- الثورات لها قيادة والمصرية عفوية بلا رأس.. الثورات لها أيديولوجية والمصرية حالمة بلا خطة واضحة.. الثورات تعرف ما تريد، والمصرية تتوالد مطالبها مع كل فجر جديد.
٦- الثورة المصرية أحدثت تغييرا عالميا فلأول مرة نصدُّر نموذجا سياسيا للعالم بعد ان عشنا قرنين على التقليد والاستيراد.. نموذج ميدان التحرير تكرر في نيويورك ولندن وغيرهما.
٧- الثورة المصرية أسقطت كل دعاوى الغرب واتهاماته للعرب والمسلمين: لم يعد يستطيع الغرب أن يتهمنا بالعنصرية أو التطرف الديني، فالتلاحم بين المسلمين والأقباط كان نموذجيا، لم يعد يستطيع الغرب إثارة قضية المرأة بعد المشاركة الرائعة للمرأة في ثورة يناير دون تحرش أو اهانة، ولم يعد يستطيع الغرب أن يتهمنا بالعنف بعد أن قمنا بأكبر تغيير سياسي في تاريخ العرب الحديث بصورة سلمية؛ حتى في مواجهة العنف، ولم يعد يستطيع الغرب اتهام المرأة المحجبة والمنتقبة بالسلبية أو التخلف بعد أن صعدت منتقبة فوق الدبابة في عنفوان وقوة.
٨- الثورة المصرية أنقذت الشباب المسلم من الانخراط في مشروع الإرهاب والعنف؛ لأنه رأى أنه يستطيع أن يغير أقوى نظام عربي بالنكته والهتاف الضاحك، الثورة المصرية نزعت الشرعية عن جماعات العنف والإرهاب المنتسبة للإسلام لأنها حققت أعظم مما يدعون بسلام.
فتحية الى شباب مصر، وتحية إلى جيش مصر العظيم الذي حمى الثورة وحملها الى بر الأمان، تحية إلى قيادات الجيش المصري التي ترفعت عن المناصب وطمع فيها من كان آخر من انضم لثورة ٢٥ يناير.
كانت هذه لحظة البراءة والطهر والنقاء التي تجلت فيها روح شعب مصر وطبيعته الكامنة تحت طبقات متعددة من ركام الزمن وتراكم الثقافات والتواريخ؛ نفس هذه اللحظة ذاتها هي التي استقبلت العرب والإسلام مع عمرو بن العاص عام ٦٤١م، هي نفس الطبيعة، ونفس العمق، ونفس الإعلاء لقيمة الإنسان والمجتمع والسلام على قيم السلطة والسطوة والقوة والهيمنة.
لكن طيور الظلام، وبوم الخرائب وغربانها، من المتاجرين بالدين استشعروا الخطر وخافوا كساد بضاعتهم، فتحرك تنظيم الإخوان واستعان بصنائعه في غزة وحلفائه من المصابين بداء العظمة والاستعلاء في جنوب الوادي، وتحركت كل صنائع التدين المغموس في النفط، وحولتها إلى تجارة، وبعد أن رأينا القسيس بزيه الكهنوتي الوقور يمسك بمقشة ويكنس الشوارع مع الأهل والجيران، وبعد أن رأينا سكان العمارات والحارات يحرسونها من بلطجية الحزب الوطني والهاربين مع الإخوان من السجون، تغيرت الصورة، “ورجعت ريمه لعادتها القديمة”.
وبدأت كل القوى التي سحبت الثورة من تحت أقدامها البساط، ونزعت شرعيتها، التحرك لتدافع عن مواقعها ومصالحها، فكانت أحداث ماسبيرو، وحرق كنيسة أطفيح، ثم غزوة الصناديق، وأحداث محمد محمود، وظهرت الأحزاب الدينية، وتحرك الرهبان في بعض الأديرة للاستيلاء على أراضي الدولة في وادي النطرون ووادي الريان والدير الأبيض في غرب سوهاج.. الخ، وانتشرت البلطجة والعنف، وأخرج الإنسان المصري أسوأ ما فيه من انحطاط أخلاقي متمثلا في السرقة والاختطاف والاغتصاب وقطع الطريق، وأخيرا جاءت انتخابات مجلس الشعب، وتم توظيف الخطاب الديني من قبل الإخوان والسلفيين، وتمت شيطنة الأقباط والليبراليين واليساريين.
وبعدها جاءت انتخابات الرئاسة وكانت نهاية الحلم، ثم جاءت ثورة ٣٠ يونيو لتصحح المسار؛ وتعيد للثورة زخمها، غير أن من خسروا السلطة بعد أن ذاقوا لذتها أعادوا مصر إلى ما هو أسوأ مما قبل ٢٥ يناير؛ فانقسم المجتمع، وتشتت الوعي، وأصبحت قيم الوطن والوطنية موضع نقاش وتساؤل، وظهرت التنظيمات الإرهابية في سيناء، وانتشر القتل العشوائي، والتفجير العبثي في شوارع مصر، و”إنصحى الحلم”.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة