معرض "فوتوغرافيا المتوسط".. توثيق أشكال الحياة وناسها
معرض "فوتوميد" (فوتوغرافيا البحر المتوسط)، في بيروت، مناسبة كبيرة لاجتماع التجارب المحلية والأجنبية ولتنوع الاقتراحات الفنية.
هو حدث أساسي لفن الفوتوغرافيا المتنامي في لبنان. فمعرض "فوتوميد" (فوتوغرافيا البحر المتوسط)، المبتدأ في 22 يناير/ كانون الثاني والمستمر حتى 10 فبراير/ شباط 2016، بـ "مركز بيروت للمعارض" (البيال)، مناسبة كبيرة لاجتماع التجارب المحلية والأجنبية، وملاحقة التباينات والتقاطعات وتنوع الاقتراحات الفنية وموضوعاتها الإنسانية والتقنية. والأهم أنه مناسبة لامتحان فكرة المشترك المتوسطي، التي عليها يقوم هذا المهرجان السنوي، المتنقل بين دورة وأخرى من مدينة إلى أخرى، ومن ضفافه الشمالية إلى ضفافه الجنوبية.
إنها الدورة الثالثة التي تستضيفها بيروت، وتقام على شرف فن التصوير الإسباني، وتكريماً لأهم رموزه، المصور الإنسانوي إدوار بوبا. ويقدم المعرض العديد من المصورين الفرنسيين والإيطاليين. وهو أيضاً بمثابة تحية لصالات الفن اللبنانية، التي ما زالت تجهد من أجل نشر فن التصوير الفوتوغرافي اللبناني، محلياً وعالمياً.
يقول مدير هذه الدورة فيليب هولان: "نأمل، من خلال هكذا مهرجان، التمكن من خلق حوار ثقافي إيجابي، والحفاظ على قيم مشتركة في مواجهة اللاتسامح".
من المعروف أن فكرة تأسيس "فوتوميد" انطلقت من اعتبار المتوسط مهداً لحضارات قديمة، وقاسماً مشتركاً لحضارات أوروبا، إفريقيا وآسيا. إنه ملتقى التناقضات والميول. وينشغل هذا النشاط الفني بدوافع ومسارات المصورين المعاصرين، على خطى الأجيال السابقة.
وكما في كل دورة، تفتح برمجة المهرجان آفاقاً، وتكشف ميولاً وتستكشف أمكنة، فعدا عن المعرض، هناك ورش عمل وقراءات وعروض فيديو آرت وأنشطة متعددة. ويبقى الهاجس: هل الكلام ممكن، في زمن العولمة، عن فوتوغرافيا متوسطية نوعية؟ وفي البحث عن مزاج متوسطي، كما في البحث عن أمزجة فنانين وطرائق نظر؟ وبالانتباه إلى التاريخ والحاضر، هل لهذه الفوتوغرافيا "المتوسطية" خصوصيتها وضوؤها؟
في محاولة للرد على هذه التساؤلات، يقول المدير الفني لهذه الدورة، الكاتب والفوتوغرافي الفرنسي غيوم دو سارد: "يحضر المتوسط في ذاكرتنا، من خلال الضوء، البريق والسطوع.. كأن المتوسط هو حديقة العالم، ولكنه أيضاً عالم التراجيديا. في عالم عوليس هذا، يبحث المصورون الشباب عن اليومي، وتوثيق أشكال الحياة، التحولات العمرانية، شروط العيش والعمل، الممارسات الشعائرية، كل هذا في هم توثيقي صميم".
ولبنان راهناً، بات على خارطة العطاء والإضافة في هذا المجال، إذ يقول المنظمون: "هي فوتوغرافيا بلد متوسطي صغير لكنها واعدة، تعتبر من مقومات حياته الثقافية والاقتصادية والجامعية، إذ أن كل مؤسساته الجامعية تدرّس الفوتوغرافيا. اختيارنا هذا مثال عن التنوع المبدع للفوتوغرافيا اللبنانية. اخترنا أسماء معاصرة ممن يعيشون ويعملون في لبنان، من بين عشرات آخرين، نأمل مشاركتهم عن طريق تبادلات ثقافية. هو فعلاّ جيل متشائم وناقد، يميل إلى إغناء الحياة الثقافية الوطنية، ويأمل بمجتمع لما بعد الحرب يبحث عن هوية ثابتة ومدنية، وعدالة وحرية بعد هذا التمزّق الإنساني والثقافي الذي لا يزال بادياً حتى اللحظة".
المصورون اللبنانيون يشاركون عبر رعاتهم. غاليري "أجيال"، تقدم أعمال وضاح فارس. كاميراته غير الاحترافية عام 1969، تتجول في لبنان ذاك الزمن، تختصر معالمه الثقافية بالأسود والأبيض: مهرجانات بعلبك وكواليسها ووجوهها الأيقونية، بورتريهات لرموز الثقافة: شعراء، ممثلون، رسامون.. عدسة عارفة بشخوصها وأماكنها، حميمة، وكأنها تمتلك حدسا مسبقا بزوال ما تراه. كأنها تؤرخ عصرها، بحساسية صحافية.
غاليري "أليس مغبغب" تعرض أعمال طوني حاج، فرنسي من أصل لبناني، مشغول بعالم الأزياء، منصاته، عارضاته، مصمميه، خفاياه الحزينة، هشاشته المغلفة بألوان صارخة وأضواء اصطناعية مبهرة. كلوديا شيفر، إيف سان لوران، مشاهير وأقمشة، ولحظات عابرة، ينتبه إليها بعينه التي لا تغفل عن الضعف المستور، وعن جماليات خفية، وراء بريق الأزياء ووراء الماكياج والـ glamour.
وتقدم غاليري "آرت فاكتوم" كارولين تابت وتانيا طرابلسي. وفي أعمال تابت، عدم الوضوح هو التيمة التقنية، ضباب فضي كعطب في الكاميرا، يظهر معه العالم محروقاً، مختنقاً بالغبار. زوايا العدسة منحرفة، أو بعكس الجاذبية، تتدخل الفنانة في إعادة إنتاج اللقطة، بإضافات تقنية، تراكم على الصورة طبقات من عتق زمني، وتدمير متعمد.
تانيا طرابلسي عاشت في النمسا، حيث تخصصت في تصميم الأزياء. بعد عودتها إلى لبنان بدأت الاهتمام بالفوتوغرافيا. عرضت أعمالها في الخارج، ونشرت صورها في "براون بوك"، "شيكاغو تريبيون"، "كولورز ماغازين"، "لوس أنجلوس تايمز"،"مونوكل"، "ذا أوبسرفر"..
بعد أعمالها السابقة، أكان عبر متخيل التقنية المرئية وأشكال الاتصال، أم في الحياة الواعية، يبقى الشكل الإنساني متمسكاً بهويته في صورها. تقول: "الشكل الإنساني مرتبط بشهوات النظر. أمام هذه العين الجشعة التي تلتهم الحياة الشخصية والعزلة الإرادية يتواجه البوح والكتمان".
لأعمال تانيا طرابلسي ارتباط بالزمن، تلتقط اللحظة فتحيلها إلى زمن ماضٍ. إنها تجعل من الحاضر ماضياً ولحظة لا يعد لها وجود سوى في الصور. صورها صامتة رغم الحركة التي تملأ أطرها. هو تفكيك الذاكرة وإعادتها إلى شكلها المرئي.
غاليري "جانين ربيز" ترتب جناحها للمصورتين لارا تابت وميريام بولس. وإذا كانت صور لارا اختبارية، داخل استديو، محصورة بالجسد، بحساسية داخلية كتومة، فإن ميريام بولس تملك كاميرا جوالة، فائقة الفضولية، ذكية ولا تخلو من الاحتفال بصخب الحياة اليومية. تخصص لهذا المعرض، عملها التوثيقي البديع، عالم يوم الأحد، يوم العطلة، حين تخرج العاملات الأجنبيات من بيوت مخدوميهن، إلى أماكنهن الخاصة، هناك في معابدهن، في صالة احتفالاتهن، في سوقهن الأسبوعي، في صالون تزيين شعورهن.. كاميرا لا تتلصص، تنظر بحب وتعاطف ودهشة. توثق مجتمعاً بات أساسياً في الحياة اللبنانية منذ ثلاثة عقود، ولم يتم الاعتراف به كجزء من الفسيفساء الوطنية. إنها تضع أمامنا الموجود وغير المنظور.
جيلبير الحاج ولميا ماريا أبي اللمع مع غاليري "تانيت". الحاج، فنان البورتريه بامتياز. متطلب، نافذ في القسمات، يتدخل في رسم الوضعية. يقدم مجموعتين، الأولى ملونة والثانية سوداء تقريباً. يقال فيه إنه يقدم صوراً تبدو معدة مسبقاً، فلا يخلط الموضوعية والانحياز. اختيار الموضوع أساسي وتخضع له كل المتطلبات، والمسافة منه، وزاوية التصوير، ودرجة التعريض للضوء ونقاء عمق المجال في الصورة، هي كلها شروطه الصارمة. يهندس بروية بعيداً عن أي تلقائية أو انفعال.
أبي اللمع، صادمة وجارحة. تضع النساء، كبيرات السن على الأغلب، في مواجهة الكاميرا، على شبهة خفة الملبس، في غرفهن، في صالونهن، في مكانهن الخاص.. ودائماً ثمة مرآة جانبية أو خلفية أو في الوسط. مرآة تفضح، أو تعكس ما تفضحه الكاميرا. أشبه بقصيدة رثاء للجمال الذاوي، لنكبة الأنوثة. صور لا تخلو من حزن جسماني مجبول بالعنفوان والتحدي، والحضور الأنيق للعمر. وثمة تواطؤ قاس، أو تفاهم عميق بين المصورة و"أبطالها". البعد الإنساني، يجعل صورها غير المألوفة تذكاراً جارحاً لـ"الوضع البشري".
بالطبع، تطغى على المعرض فوتوغرافيات إسبانية كبيرة الأثر في تاريخ التصوير. أبرزهم إدوار بوبا، ولد في 1923، تخصص في الطباعة وحفر الصور (فوتوغرافور). في تلك الحقبة كتب: "يستدرجني الضوء الأخضر المائل الى الزرقة في مختبرات الحفر إلى حلم عيش الحياة الحقيقية. ما كان يجذبني هو شاعرية العالم آنذاك. كنا مفلسين لكن سعداء". تعرّف على التصوير الفوتوغرافي فور نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي 1947 نال جائزة من "كوداك".
في الخمسينيات جال حول العالم موفداً من مجلة "Realites". زار إيطاليا، إسبانيا، المكسيك، الولايات المتحدة، الأردن، لبنان، البرازيل، المغرب، اليمن، البيرو، كينيا، فييتنام، والسويد ودولاً أخرى. كان رحالة لا يكل في بحثه المستمر عن سحر اللحظة، عابثاً، حكيماً، ساخراً. حصل في 1977 على الجائزة الكبرى لأفضل كتاب في "لقاءات آرل الفوتوغرافية الدولية" عن كتابه "البقاء"، وفي 1984 على الجائزة الوطنية الكبرى للتصوير، وجائزة "هاسلبلاد". عاش وعمل في باريس، حتى وفاته في حزيران 1999.
ويشتمل المعرض أعمال أرنو بريغنون، توني كاتاني، أنطوان داغاتا، مجموعة غابينو دياغو، إيما غروبوا، ألفارو سانشيز مونتان، لويس فيوك، كريم صقر، رندا ميرزا، أليخاندرو بوتشينللي، ألسي حداد، وأنجيلو أنطوليني.
aXA6IDEzLjU5Ljk1LjE3MCA= جزيرة ام اند امز