أقولها بصراحة هؤلاء هم سر أزمة الإسلام والمسلمين الآن، بينما العالم الإسلامي في حاجة لينفض عن نفسه غبار قرون عديدة من الركود
كانت صلاة جنازة لأحد أبناء الجالية المصرية في مسجد بمنطقة نيويورك، كان الفقيد صاحب مطعم شهير في المدينة وله أصدقاء كثيرون من العرب والأمريكيين الذين حرصوا على الذهاب إلى المسجد ليلًا لتقديم واجب العزاء.
لم أكن موجودًا ـ ربما لحسن الحظ ـ لكن ما عرفته بعدها أن المسيحيين وأغلبهم من المصريين خُصص لهم مكان مستقل يتابعون من خلاله ما يقال وما يدور، ثم حدث مالم يتوقعه أحد من إمام المسجد، وهو أساسًا مهندس زراعي حاصل على الماجستير من الأزهر في العلوم الدينية، أمسك فضيلته بالميكروفون وأخذ يتحدث عن وجود المسيحيين في الجامع، مضيفًا أن ذلك مرفوض دينيًّا من البعض، لكنه سمح بذلك كي يستمعوا إلى كلامه حتي يهديهم ربنا ويعتقهم من النار!.
الغريب أنه دلل على صحة موقفه بحكاية اقتطعها من سياقها عن الرسول (صلعم) بأنه ربط مشركًا في أحد أعمدة المسجد ثلاثة أيام إلى أن دخل الإسلام، (لا يا شيخ؟) ولماذا لا تقتدي بالرسول وتقوم أنت أيضًا بربط الأصدقاء المسيحيين في مسجدك علهم ينطقون بالشهادة وتدخل الجنة على حسابهم؟ هذا تنازل كبير منك في الدين لا يتفق مع ورعك وتقواك!.
كانت كلمة إمامنا الجليل بالعربية التي يفهمها أغلب الحاضرين، ثم انتقل إلى الحديث بإنجليزية ركيكة لا تتفق مع شخص عاش في بلاد العم سام لأكثر من 30 عامًا، وربما يفسر ذلك الكارثة، فهو ربما يسكن في أمريكا لكنه لا يزال يعيش في مصر أو بالأحرى داخل مناطقها المعزولة التي تنظر إلى العالم من حولها بعيون ضيقة وطائفية، فكيف لشخص درس في الأزهر وقاده القدر للحياة في أمريكا أن ينظر للعالم بهذا الشكل، وإذا كانت هذه هي عقليته وطريقة استيعابه للدين الذي يتحدث باسمه ويدعو إليه، فكيف افتقد إلى أبسط قواعد اللياقة والأدب مع ضيوف المسجد بهذه الصورة.
قلمي هادئ ولا أحب شخصنة الأمور أو إحراج الناس، لكن الرجل لم يتورع عن إحراج الحاضرين مسلمين ومسيحيين، فسمحت لنفسي بهذا الاستثناء.
وقد خرج الحاضرون وهم يضربون كفا بكف، وتوالت رسائل الاعتذار من بعض المسلمين الذين حضروا، خاصة على الفيس بوك، وكان جميلًا أن يرد المسيحيون بعبارات مهذبة تقبل الاعتذار، وتؤكد أنهم لن يسمحوا لمثل هذا الإمام ولا لغيره بإفساد الروابط القوية بينهم.
لكن ما لفت نظري أيضًا في كلام فقيهنا الكبير هو حديثه عن السماح بدخول المسيحيين للمسجد، فيما اعتبره مَنًّا وكرمًا من سيادته عليهم ليعتقهم من النار، وكان بودي لو حضرت أن أسأل فضيلته: ولماذا إذن تذهبون إلى الكنائس، بل وتقيمون الصلوات فيها كما حدث في كاتدرائية واشنطن التاريخية الكبرى التي دعت أعدادًا كبيرة من المسلمين في المنطقة لإقامة صلاة الجمعة فيها، بل وقامت بتغيير بعض المعالم الثابتة داخل الكنيسة من صور وأشياء أخرى لكي يكون المكان ملائمًا لشعائر المسلمين، كانت رسالة تسامح من أهم كنائس أمريكا يحتاجها المسلمون الآن بشدة بفعل التشويه الذي لحق بهم جراء الممارسات الإرهابية لمن ينسبون أنفسهم للإسلام، الطريف أن هذه النوعية من الأئمة يخرجون علينا بعد هذه المناسبات في الكاتدرائية وغيرها، كما لو كانوا حققوا نصرًا مؤزرًا وفتحًا مبينًا بترديد القرآن (في عقر دار المسيحيين)، ولا مانع طبعًا من بعض الكلمات عن التسامح والتواصل والتقارب بين الأديان، لكن هذا التسامح لم ولن يسمح لغير المسلمين بالصلاة في مساجدهم من باب المعاملة بالمثل، فهذا سيكون خروجًا على الملة من وجهة نظرهم. ولكن ماذا عن مجرد دخولهم لمسجد لأداء واجب العزاء في صديق لهم؟ هل هذا أيضًا كفر بيّن؟
إننا نتحدث كثيرًا عن تجديد الفكر الديني والخطاب الديني، وكتبت مقالًا عن هذا الموضوع في هذه الصفحة بعد سجن إسلام البحيري، والمفترض أن يكون رجال الدين في المهجر هم أول مَن يدرك ذلك ليكونوا أداة تنوير علها تنعكس على بلادهم الأم، فهم بحكم احتكاكهم بثقافات وأديان مختلفة، يمكنهم رؤية ما لا يراه غيرهم بما يوسع آفاقهم ويجعلهم أكثر انفتاحًا وقبولًا للآخر، أو على الأقل أكثر قدرة على مخاطبته والحوار المتحضر معه، وهناك بالفعل نماذج جيدة منهم أشرت لأحدهم في مقال سابق عندما اتصل بي يهنئني بعيد الشكر، مؤكدا أن المسلمين أولى الناس بالاحتفال بمثل هذه المناسبات، لكن للأسف هناك الكثيرون الذين يعيشون داخل كتب مضى عليها مئات السنين ويحبسون أنفسهم بين أغلفتها، المشكلة أنهم يفرضون أنفسهم كزعماء وقادة لهذه الجالية، وينشرون هذه الأفكار المتخلفة عن الدين، هؤلاء يمهدون التربة للتطرف في مجتمع المهجر وهو ما يسمح بظهور نماذج إرهابية مثل الزوجين سيد فاروق وتاشفين مالك اللذين قاما بقتل ١٤ شخصًا في كاليفورنيا، تُرى لو التقى الاثنان بشيوخ حقيقيين يفهمون الدين ويروجون لمفاهيمه السمحة، هل كان يمكن أن ينتهي بهما الأمر لهذه النهاية المأساوية التي تدفع الجالية المسلمة كلها ثمنًا لها الآن، بحيث أصبح الحديث عن طرد المسلمين وتسجيل بياناتهم أمرًا عاديًا في انتخابات الرئاسة الأمريكية؟ وهل يمكن بعد ذلك أن نلوم من يطالب بمراقبة المساجد إذا كان هذا هو الخطاب الذي يتردد على مسمع من العالم كله وبحضور ضيوف من المسيحيين.
أقولها بصراحة هؤلاء هم سر أزمة الإسلام والمسلمين الآن، بينما العالم الإسلامي في حاجة لينفض عن نفسه غبار قرون عديدة من الركود والجمود الفكري الذي يعوق دخول القرن الحادي والعشرين.
لكن إذا كان هناك ضوء في نهاية النفق، فهو أن أبناء الجالية من المسلمين هم أنفسهم من رفض هذا الخطاب المتخلف غير المهذب، وكانوا أول المعتذرين عنه، ربنا يهدينا ويهديك يا مولانا!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة