يبقى التشابه بين الفقراء والثلج المتراكم عند عتبات القدر وعلى مقربة من الجرح الدامى، التشابه الوحيد هو بياض الثلج وقلوبهم
تنخفض درجات الحرارة.. تزداد أكثر فأكثر كأنها تعاند ذاك الجالس فى خيمته أو فى نصف منزله. يتساقط الثلج غزيرا. ينتشى بعضهم ويحملون أمتعتهم إلى الجبال لممارسة رياضة التزلج حتى هو الجالس وسط العاصفة، يقول إن لم تهدأ سأسرق لحظة للتزلج.. رياضة جميلة لمن استطاع إليها سبيلا، ولكن ماذا عنهم. نعم هم الأكثر انتشارا اليوم، النائمون على الأرصفة، المتدثرون بأجساد بعضهم البعض، المفترشون للأرض الرطبة المتجلدة تحت حافة خيمة بالية. الجائعون المشردون من النساء والأطفال. ماذا عن ذاك الذى رمم بعض بيته ببعض ركام بيته الآخر، وأغلق النوافذ المشرعة للجليد بقطعة من البلاستيك الرقيق. ماذا عن أولئك الذين وبعد أن سقط منزلهم حجرة حجرة لم يجدوا سوى الحدائق العامة لتكون هى المنزل والمدرسة ومكان الراحة والسكينة!
تأتى العواصف بتسمياتها المختلفة، تقصف بالضعفاء والفقراء والمحتاجين فقط هم من لا يحملون لهذه العواصف سوى الكثير من الكراهية، لأنها قد تشردهم أكثر وقد تزيد من عذاباتهم وقد تحولهم إلى مجرد ريشة فى مهب الريح هم وأطفالهم الضعفاء نتيجة قلة الأكل والملبس، فيما يفرح الكثيرون أنه موسم الفرو والمعاطف الدافئة يحمل البعض أطفالهم عندما ترتدى الجبال اللون الأبيض ويرحلون لكثير من المدح واللعب، ولا ضير فى ذلك سوى أن للشتاء وللعواصف وجوها مختلفة كثيرا ما تغيب عن المشهد العام، لأننا أتقنا إخفاء فقرائنا ومشردينا حتى أصبحوا غير مرئيين أو ربما فى عزلة عن المدن المكتظة بكل ما لذ وطاب.
تدرك ذلك عندما يسألك طفل صغير عن طعم الشوكولاتة ذاك الذى تعرف بعض الدراسات، قالت إنه قد يكون مصدرا للسعادة أو على الأقل إبعاد التعاسة أو الاكتئاب، كيف يكون للشتاء وجهان كل منهما مناقض للآخر.
***
لم يعد التشرد والنزوح والسكن فى بقايا منازل هى صفة ملاصقة لهم لأولئك آخر العرب القابعين تحت الاحتلال المكتوين بناره ونار عنصريته وكثير من قبحه، حتى أصبح المحتل هو المثال فى التفنن فى قمع ذاك الشعب الصامد، الصابر، المناضل رغم كثر الدم وقلة التضامن من الجيران والأخوة والأحبة ربما لانشغالهم بنوع جديد من التشرد والجوع امتد على طول وعرض المنطقة وعند حواف المدن التاريخية. التشرد الذى صار يطارد حضارات وشعوب سقطت تحت قذيفة أو صاروخ قادم من هنا وهناك حتى ازدحمت السماء السابعة.
ماذا يفعل الفقراء فى الشتاء وفى مواسم العواصف؟ بماذا يحمى الجلد عظما نافرا من قساوة الغربة. يتكور الطفل فى زاوية من حضن أمه يبحث عن الدفء هو وإخوته الأربعة من أين لجسد الأم الضعيف أن يحمى الصغار؟ هى الأخرى لم تعرف أى ظل لها منذ أن شردت فى بقاع الكون. ولكنها ورغم قساوة الثلج الذى يشبه لون قلبها تخلق من الفراغ دفء، ومن العدم وجبة صغيرة لصغارها. هى بالطبع تحمل لقب فقيرة ككثيرين، لم تجن عليهم السنوات الأخيرة من الطفرات إلا مزيدا من الفقر والعوز. تصنع الخبز الساخن من بقايا طحين تساقط بين شروخ المعونات. هى تدرك أن الطبيعة تقسو أحيانا على البشر ولكنها تستغرب قساوة الآخرين من البشر وتجاهلهم لها، ليس لأنها تبحث عن بعض مكرمات منهم إرضاء لبقايا عذاب ضمير أو ربما طمعا فى حجز قطعة هناك فى الآخرة، حيث سيقف الجميع متساوين كما تقول الكتب المقدسة على اختلافها وتشابهها معا. كلها تدفع بالفقير أن يقبل بفقره وربما يشكر خالقه، لأن الناس كأسنان المشط أحيانا وكثيرا هم ليسوا سوى طبقات!
***
لا يكره الفقير شيئا، أكثر من كرهه للمتسلطين، سوى الطبيعة المتسلطة هى الأخرى المستقلة لضعفه هو فقط. فقير الكون المنتشر هنا وهناك فى بقاع مختلفة يلتحم بفقراء آخرين، لأن الفقر يوحد كما الغنى الفاحش الذى يوحد حتى المتناقضات والأعداء فكم من ثرى صهيونى حتى النخاع تشارك مع ثرى آخر يحمل صفة ثرى وجنسيته هى ثرى أيضا!
يبقى التشابه بين الفقراء والثلج المتراكم عند عتبات القدر وعلى مقربة من الجرح الدامى، التشابه الوحيد هو بياض الثلج وقلوبهم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة