كثيرا ما يقع الخلط بين الحرية بمعنى التحرر من القيود التى تكبل الإنسان، وتعيق تفكيره وحركته من جانب، والحرية فى القول والفعل
كثيرا ما يقع الخلط بين الحرية بمعنى التحرر من القيود التى تكبل الإنسان، وتعيق تفكيره وحركته من جانب، والحرية فى القول والفعل؛ التى تعطى الإنسان المجال ليقول ويفعل ما يشاء من جانب آخر، الأولى حق مطلق للإنسان أيا كان نوعه أو جنسه أو عرقه أو لونه أو دينه، فلا يحق لأحد أيا كان أن يفرض على الإنسان ما ينال من كرامته وكيانه ووجوده، وهنا نتكلم عن الحرية من الجانب السلبي، أو من الجانب السالب لها؛ أما الحرية من الجانب الإيجابي، أى من جانب ممارستها؛ وهى الثانية فتتعلق بمجال حركة الإنسان والفضاء الذى يصول ويجول فيه من حيث القول والحركة.
هذا الخلط بين هذين المعنيين للحرية وهما (الحرية من. والحرية فى) هو ما يربك المشهد الثقافى العربى عامة والمصرى خاصة، إذ إن عدم فهم غالبية الكتاب والمثقفين علماء الدين للفارق بين الإثنين هو الذى قاد حالة التشوهات التى تشهدها مجتمعاتنا منذ 1925م حين دارت معركة الشعر الجاهلى مع طه حسين؛ إلى زمن المراهقين والمراهقات الذين برزوا فى عصر الانحطاط العربى والمصري، ومنحوا أنفسهم ألقاب الكتاب والباحثين والمفكرين والأدباء ..الخ.
فالحرية من ... بمعنى التحرر من القيود حق طبيعى للإنسان؛ يتمتع به منذ ولادته، ولا يحق لأحد أن يسلبه أو يحده أو يقيده أو ينال منه، حتى إن الخالق ذاته؛ سبحانه وتعالي؛ ضمن للإنسان هذا الحق؛ فلم يجعل الإنسان يعبده مكرهاً، أو يؤمن به مجبراً، بل أرسل له الرسل وأنزل الكتب وترك له حرية الاختيار «من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» وهذا الحق مطلق فى ذاته، لا سلطان لأحد عليه إلا سلطان عقل الإنسان وإرادته على ذاته.والحرية فية بمعنى الحق فى القول والفعل طبقاً لما يقرره عقل الإنسان وعواطفه وغرائزه، فهى حق اجتماعى وسياسى وقانوني، لابد من تنظيمه حتى تتم المحافظة على الجانب الأول من الحرية وهى الحق المطلق، لأن الإنسان يعيش فى مجتمع مكون من العديد من البشر أمثاله الذين يتمتعون بنفس الحق فى الحرية منه أى التحرر من تعدى الآخرين عليهم، وهنا لابد من وجود آطر أخلاقية إجتماعية، وتنظيمية سياسية، وقانونية رادعة لمنع تغول حريات بعض الافراد على حريات الآخرين فتكون الحرية فيه لبعض الأفراد وسيلة للتعدى على الحرية من للبعض الآخر.
لأنه لو ترك الحق لكل فرد أن يمارس النوع الثانى من الحرية بصورة مطلقة سنعود إلى حالة الهمجية المطلقة؛ التى تتحدد فيها حرية الأفراد بعوامل مادية وليس بقيمتهم الإنسانية، فيصبح الأقوى جسداً، والأكثر مالاً متحكماً فيمن هم دونه، وهنا نعود لحالة الوحشية، أو فى أحسن الأحوال العبودية.
لذلك لابد من تنظيم النوع الثانى من الحرية، وهو الحرية فى …، بحيث لا تتماس حرية إنسان مع حرية آخر، ولا تتعدى حرية إنسان حقوق إنسان آخر فى الوجود والكرامة، وهنا جاءت القوانين وجاء ما أطلق عليه المفكر الفرنسى جان جاك روسو والإنجليزيان توماس هوبز وجون لوك مفهوم «العقد الإجتماعى» الذى يقدم نظرية لظهور المجتمعات المنظمة سياسيا، وظهور الدول.
وتنظيم النوع الثانى يحتاج إلى أطر قانونية تحدد آخر نقطة فى مساحة حرية كل فرد، بحيث لا يتجاوزها ولا يتعداها، ولا يجور على الآخرين أو ينال من حريتهم وكرامتهم وسعادتهم البشرية، بل إن الأديان والكتب السماوية وخاتمها القرأن الكريم أكد ضرورة إحترام معتقدات الآخرين، وعدم إهانتها، أو النيل منها سواء بالإقرار بالوجود وتثبيت الإختلاف «لكم دينكم ولى دين» أو بالنهى عن التجاوز فى حق الآلهة التى يعبدونها من دون الله «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم» وذلك لتثبيت قاعدة الاحترام المتبادل بين كل المعتقدات بغض النظر عن تقييم كل طرف لصحة ومصداقية معتقد الآخر.
وهذا القانون المنظم للنوع الثانى من الحرية لابد أن يكون عادلاً فى الحفاظ على نفس المعايير لحريات الجميع، دون تمييز أو إنحياز، وإلا تحول هذا القانون من الحفاظ على الحق المطلق للحرية من ... وهى الأساس والحق الطبيعى لجميع بنى البشر، إلى وسيلة للنيل من هذا الحق، وإهدار للجانب الأول من الحرية؛ لتعظيم الجانب الثانى وهو الحرية فى... لبعض أفراد المجتمع؛ فيتعدون على حريات الآخرين.
وعدالة القانون هنا تكون فى تمام التسوية فى نفس الحقوق بين جميع البشر فى المجتمع، بحيث لا تكون السخرية من عقيدة معينة أيا كان مصدرها أمراً مسموحا به، والسخرية من أخرى مجرما، ولا يكون حق الأغلبية محفوظاً وحق الأقلية مهدراً….الخ. فشرط العدالة ضرورى لضمان تحقيق حرية عادلة متوازنة تساوى بين جميع أفراد المجتمع، ولا تسمح لأحد أيا كان أن يمارس حريته إلى الدرجة التى تنال من حرية الآخرين وكرامتهم ووجودهم.
والناظر فى كل المجتمعات التى حققت مستويات عالية فى الحفاظ على قيم الحرية والعدالة والمساواة يجد أن حكم القانون، وثقافة إحترام القانون، هى الأساس والضامن الوحيد لتمتع جميع أفراد المجتمع بنفس الدرجة من الحرية بجانبيها: الحرية من …، والحرية فى …، فيستحيل أن يخرج فى أمريكا أو أوروبا من يحض على كراهية الشواذ جنسيا مثلا، أو أن يتناول بالنقد والتجريح عقيدة من العقائد، أو دينا من الأديان أيا كان مصدره، وأيا كان عدد المؤمنين به، ويستحيل أن يتناول الإعلام شخصية تاريخية أو دينية لها مكانة عند طائفة من الطوائف؛ بصورة تنال من الكرامة أو تطعن فى الذات، أو يُفهم منها الحض على الاحتقار أو الكراهية.
وفى نفس الوقت هناك مجال آخر يمكن فيه تناول كل شيء بالنقد، ولكن بصورة لا تتعدى على الأشخاص أحياء وأموات ولا تنال من كرامتهم، ولا تحض على إحتقارهم، هذا المجال موجود فى مراكز البحث العلمى والجامعات، ولكن لا يتم بثه عبر شاشات التليفزيون للعوام، هو موجود فى الكتب والدوريات العلمية لمن أراد أن يتعلم. ما نحتاجه فى مصر هو حكم القانون، بشرط أن يكون القانون عادلا فى ذاته، وأن يكون تطبيقه عادلا فى هيئاته القضائية، وبعد ذلك يستطيع الجميع التمتع بالحرية بكل جوانبها، بحيث تصبح ثقافة تتوارثها الأجيال كما حدث مع مجتمعات أخرى سبقتنا، ولنتعلم من الهند «أكثر من مليار من البشر ومئات الأديان والعقائد» وحالة من السلم الاجتماعى والعيش المشترك تمثل نموذجاً نادراً، يعود ذلك إلى ضمان أعلى درجة ممكنة من حكم القانون فى كل ما يتعلق بالحريات.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة