أزالت الثورات العربية الحجب عن فئة ظلت مهمشة طيلة عقود: الشباب وكثرت المقالات والأفلام الوثائقية المشيدة بالدور الذى اضطلع به الشبان
أزالت الثورات العربية الحجب عن فئة ظلت مهمشة طيلة عقود: الشباب وعلى هذا الأساس كثرت المقالات والمؤلفات والأفلام الوثائقية المشيدة بالدور الذى اضطلع به الشبان.
فلولا تحرك هؤلاء وتصميمهم على تغيير الواقع لما أمكن القضاء على رأس النظام.
ولئن تم التركيز على شباب فيسبوك وتويتر أكثر من غيرهم فإن المحصلة كانت إيجابية إذ أمكن لأعداد كبرى من المنسيين والمقصيين التعبير عن أحلامهم وطموحاتهم وتصوراتهم للمستقبل. ولكن شيئا فشيئا تغيرت الصورة فانتقلنا من الاعتراف بالشباب قوة خلاقة إلى تغييبه من المشاركة فى اتخاذ القرارات وعاد تهميش الشباب من جديد بل إن الثورات أكلت أبناءها.
امتلك الشيوخ والكهول سلطة القرار واحتكروا المشهد السياسى وآزرتهم أغلب وسائل الإعلام التى رأت أن الزمن هو زمن من يملكون السلطة فساهمت بذلك فى مرئيتهم ونجومية بعضهم حتى وإن كان هؤلاء ضعيفى الأداء ومستهترين بمصالح الناس. ومثلما غيبت أغلب وسائل الإعلام النساء وأقصتهم من المساهمة بدورهن فى النقاش العام حول السياسية والاقتصاد والتربية وغيرها من المواضيع لم يبرز الشبان باعتبارهم طاقة خلاقة قادرة على الفعل فى الواقع ونسج قصص النجاح...
إن معاناة عدد من الشبان وكفاحهم اليومى من أجل تغيير مصيرهم ظلت محجوبة، ولم تسهم بالتالى فى بث رسالة أمل إلى آلاف المحبطين. وهكذا انسحب الشباب وعزف أغلبهم عن المشاركة فى الأنشطة السياسية بل إن عددا كبيرا آثر مقاطعة الانتخابات وعبر عن استيائه وسخطه على ما آل إليه الأمر فى مرحلة الانتقال الديمقراطى. ومال عدد من الشبان إلى المشاهدة ومتابعة الواقع بطريقة سلبية تكرس الاستقالة واللامبالاة.
صمتت أعداد من الشبان فى حين اكتفت شرائح أخرى بالانتقاد والسخرية من السياسيين وتعرية العيوب وفضح المسكوت.
وفى مقابل هؤلاء قررت فئة أخرى الهروب: هجرة سرية إلى الغرب أو هجرة إلى بلاد الشام لنصرة الإخوان وفى الحالتين قطع مع الوطن والأهل والخلان وإقرار بأن البلاد ما عادت موطن استقرار.
***
وبعد أن كانت مواقع التواصل مجالا لاتخاذ المبادرات وترسيخ المواطنة تحولت أغلبها إلى ميدان للعراك والتراشق بالتهم والسباب واللعان.
وبعد أن كانت وسائل الإعلام الجديدة أداة للتعبير عن الأحلام والطموحات والتصورات الخاصة بتغيير الواقع باتت أغلبها وسيلة للهدم: انتقادات وبكائيات وتشويه للآخر وتكفير وتهديد.. وشيئا فشيئا ظهرت كتائب فيسبوك المجندة لصناعة الأعداء و«إبادتهم» فلا مجال لعيش «الطاغوت» والتغريبيين والكفار والملاحدة و...
قد يحمل الواحد شعار «فى حب رسول الله» فتحسب أنه ملتزم بأخلاق صاحب الرسالة ولكن سرعان ما تكتشف أنه حاذق فى استعمال الكلمات النابية ماهر فى قذف الناشطات والمثقفات.. تخاله من زمرة المرددين «قد كرم الإسلام المرأة» فيفاجأك بكره النساء والرغبة فى «تطهير الوجود من سليطات اللسان».. يضع الواحد آيات من القرآن ومقاطع من الفيديو للشيخ السديسى وأقوال لابن باز وابن تيمية فتحسب أنه متأدلج عارف بمضامين الوسائط فتنتبه إلى أنه لا هم له سوى الشتم واللعن والتهديد..
ولا فرق بين كتائب الإسلاميين أو العلمانيين، فالكل يتنافس من أجل استئصال الآخر وتطهير البلاد من شره ومعنى هذا أن «مديح الكراهية» بات ممارسة متأصلة، وكأنه يعسر العيش معا فى وطن واحد.
ويبقى السؤال: هل أدركت الحكومات المتعاقبة أن عينها كانت كليلة لا ترى إلا من تمثلتهم على أساس أنهم أصحاب الحكمة والخبرة؟ هل بإمكان هذه الطبقة الحاكمة أن تقر بأنها عاملت الشبان إن كانوا من هذا الفريق أو ذاك بنفس الأسلوب (الاحتقار والتهميش والتنكر والاستخفاف)، وكأنها أصيبت بالعمى فما عادت تفرق بين الوجه والقفا؟ وهل بإمكان الحكومة الحالية أن تغير صورة الشبان التونسيين التى ارتسمت فى الخارج: أولئك الذين اشتهروا بمهارة الذبح والتمثيل بالجثث و....؟ هذا هو القفا ولكن وجه الصورة الذى لابد أن نهتم به: الشاب التونسى طاقة خلاقة قادرة على اتخاذ زمام المبادرة وبناء المستقبل.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة