أفزعنا سد الموصل بصرخات الموت المرعبة التي أطلقها، لا أحد يعلم متى أصابنا الفزع حقاً
أفزعنا سد الموصل بصرخات الموت المرعبة التي أطلقها، لا أحد يعلم متى أصابنا الفزع حقاً، المرجح أن اللحظة التي انتهى فيها تشييد السد في منتصف الثمانينات كانت مفرحة حتى وصل اتصال إلى القائد الضرورة باعتباره يخوض في تلك الأيام حرباً ضروساً مع إيران، يبلغه بأن تقديرات الخبراء المستقلين التي تحدثت عن حتمية تعرض قواعد السد إلى انزياحات من تربة غير مستقرة، كانت صحيحة. قال له المتصل وقد تخثر الدم في شرايينه: «يا سيادة الرئيس، الشركات الإيطالية والسويسرية والألمانية التي طمأنتنا إلى متانة السد... خدعتنا!».
لم يكن السيد الرئيس حينذاك مشغولاً بمحاسبة أحد على هذه الخديعة، فهو «خطأ اضطراري»، والقائد لم يكن سيسمح ببناء السد وفق النصائح الأولية في منطقة كردية لتمتد بحيرته إلى داخل الحدود السورية أيضاً، وعلى السد كما على العراق التعرض إلى الحقن بالأسمنت المسلح كل يوم ليقاوم الانهيار.
أرض هشة... وسوء تقدير لصلابة السدود أو الأوطان، سمحت بانزياح «داعش» إلى نصف مساحة العراق بعد ذلك التاريخ بثلاثة عقود وأكثر، ليدفع الخليفة البغدادي مهندسيه بسراويلهم الفضفاضة إلى السد بحثاً عن الإجابة.
لا يمكن تخيل مشهد أكثر فنتازية من تقدم كبير المهندسين مطأطئ الرأس إلى كرسي الخلافة: «أيها المحفوظ من مكر القنابل الذكية، إن انهيار السد سيغرق ولايتي الموصل وصلاح الدين وأجزاء من ولايات الأنبار وبغداد وبابل ويحطم في طريقه سدوداً ونواظم ومشاريع ماء وكهرباء ومنازل، وبالتأكيد يامولانا فالسيول ستلتهم مليون عراقي، وستسقط الحكومة الصفوية والسفارة الأميركية».
ليس ثمة ما يشبه حالنا كعراقيين كما يشبهنا سد الموصل، والإجابة التي يحملها السد تكاد تكون واحدة له ولنا، غرائبية وفنتازية أيضاً، ومع هذا لن يجرؤ أي خبير في تشييد السدود على دحضها: «قد ينهار السد في لحظات، وقد يستمر لعشرات السنوات المقبلة. وانهياره قد يدمر خلال ساعات كل المناطق التي احتلها «داعش» بساعات أيضاً!».
استلم زعماء الطوائف في العراق تقارير سد الموصل المقلقة، وكما استلمها «الخليفة»، طالعها أوباما وبوتين ودقق فيها روحاني وقلّبها أردوغان، ووضعت على مكاتب زعماء كل الدول العربية. بحث الجميع في «غوغل إرث» عن موقع هذا السد المزعوم، تماماً كما بحث مواطنو أميركا في الخريطة عام 2003 عن البلد الذي قال جورج بوش أن برامجه النووية تشكل تهديداً للعالم بأسره... بدأوا قياس المسافات وتدقيق أسماء مدن وقرى يكتشفون مواقعها للمرة الأولى. قال أحدهم في سره: «سيناريو نهاية العراق لا يشبه حتى التقسيم!».
يتم البحث عن حل للعراق. لا تنكر العواصم الإقليمية والدولية أنها تبحث عن حل لهذا البلد، فحقن الوحدة الوطنية لم تعد تكفي لملء تشققات قواعده، وكل الباحثين والفلاسفة والمحللين وكاتبي القصائد الشعبية لم يعد بإمكانهم الاتفاق على الحل الأكثر أمناً. «داعش» نسف كل السناريوات غير المكلفة.
أميركا سبق أن حطمت الآمال، والجيران تسابقوا على منع مد الجسد الهائل الملقى في قلب المنطقة من أثر الحصار والبارود وتعاويذ السحرة، حتى بحقن «المورفين».
لم يستحق العراق من العالم عملية جراحية كبرى على يد خبراء لاستئصال أورام كشفتها الأشعة السينية، ورم صغير في منطقة الصدغ، آخر في الرئة، ثالث قرب الكبد.
لم تكن أرض الرافدين أولوية إلى درجة السماح خلال عقد لمجموعات من المشعوذين باستخدام السكاكين والحراب الصدئة لحفر أخاديد في الجسد المسجى يطلقون عليها بعد حين «حدوداً».
ثمة ألف طريقة وطريقة لاختفاء الدول من الخريطة، ولكن هناك طريقة واحدة واضحة وبينة وصريحة فقط للحفاظ على العراق سالماً من أجل تاريخه ومن أجل مقدرات شعبه ومن أجل مستقبل شعوب المنطقة ومن أجل الأمن والسلم الدوليين، ومع هذا لم يكن بالإمكان التوصل إليها.
تخبرنا الحكومة العراقية أن قضية سد الموصل تتعرض لتهويل إعلامي ليس إلا، وأن الخطر ليس داهماً، وتخبرنا أيضاً أن مخاوف التقسيم تتعرض أيضاً لتهويلات إعلامية!
لا يريد أحد الحديث مع عائلة المريض عن مرضه، لا يجازف طبيب في اتخاذ خطوات لإنقاذ حياته، كإشراك الأمم الحية في بناء سد أو سدود إضافية تنهي احتمالات انهيار سد الموصل، أو إجماع الدول المتصارعة على التأسيس لعلاقة حقيقية متساوية ومن دون ادعاءات ومزايدات بين العراقيين أنفسهم حول مستقبل بلدهم، بما قد يسمح بنوع من الفصل بين خطوط التماس الدموية بدل الانفصال الرسمي بين المكونات.
يرغب الجميع في تحقيق لعبة المزايدات في أكثر اللحظات درامية من تاريخ العراق، كأن يفترض أحدهم أن المقاتلين الشيعة مرغوب فيهم اليوم حقاً في المناطق السنّية والكردية، أو أن «البيشمركة» الكردية مرغوب فيها شيعياً أو سنياً، أو أن مقاتلين سنّة سيكون مرحباً بوجودهم في إقليم كردستان أو النجف! مُهدراً بذلك أطناناً من الوثائق والمواقف التي تؤكد أن القوى السياسية مدفوعة بنيات الجيران أوصلت المكونات الاجتماعية العراقية إلى الشك بجدوى الشراكة مع بعضها، وأنها ستبقى متخوفة حتى بعد سنوات من إيقاف الشحن الطائفي والقومي من سعي الأكثر قوة ومالاً ونفوذاً لاستدعاء الآخرين إلى «بيت الطاعة».
«فشلت الدولة». إنها تحتل صدارة الدول الأكثر فساداً. تعجز خزائن النفط عن سداد مرتبات الموظفين أو إخفاء الفضائح. ولا يقوى طرف فيها على إدارة حوار وطني عادل من دون وصي إقليمي أو دولي.
تلك حقيقة بيّنة لا تحتاج حتى إلى إثبات، ساهم الجميع في الوصول إليها، عندما أصروا عن ترصد على منع تأسيس حكم رشيد وجيش وطني وعلاقات دولية متوازنة، وأن ينهار «سد الموصل» في ظل دولة فاشلة، فهو أمر لا يفاجئ أحداً أيضاً.
لكن، ليس كل دولة تتعرض للفشل على أساس حقائق موضوعية وضغوط واعتداءات إقليمية ودولية يتوجب نحرها وتقسيم أجزائها بين جيرانها، كما أن ليس كل سد يتعرض للتشققات يجب هدمه.
وعلى أي حال، لا يمكن أن يدعي أحد أن ثمة دولاً «نظيفة» يمكن أن تنتج عن أفكار التقسيم الأكثر تفاؤلاً، ولا أفكار «الإغراق» الإبليسية أيضاً، فكل طرف سيحمل في حصته الورم الذي رفض استئصاله عندما كان ذلك ممكناً. كل طرف سيحمل سداً آيلاً للانهيار كسد الموصل في جوهر وجوده وفي حقيقة تكوينه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة