ثمة أسباب عديدة لهذا العجز، أو التلكؤ، ضمنها تجزؤ مجتمعات الفلسطينيين، وخضوعهم لأنظمة مختلفة ومتباينة
منذ أكثر من ثلاثة عقود ربما، أي منذ انتهاء الكفاح المسلح من الخارج عام 1982، أو في لحظة تحول الحركة الوطنية إلى سلطة في الضفة والقطاع وفقاً لاتفاق اوسلو عام 1993، أو مع تآكل وهم التسوية والتفاوض وإخفاق الانتفاضة الثانية ونمط العمليات التفجيرية (2000 الى 2004)، برزت أصوات فلسطينية، منها كاتب هذه السطور، تتحدث عن أفول الزمن الفصائلي، بما له وما عليه، بشعاراته وبناه وأشكال عمله، ليس استعجالاً، ولا رغبة في ذلك، وإنما كتقرير لواقع انحسار مكانة الفصائل في مجتمعات الفلسطينيين، وتآكل ادوارها النضالية في مواجهة اسرائيل، وافتقادها لمبرر وجودها، وحتى الهوية الفكرية او السياسية التي تأسست عليها.
يمكن ان نتحدث هنا عن مثقفين وأكاديميين وسياسيين كنديم روحانا (راجع: «قراءات في الهبّة»، مجلة «دراسات فلسطينية»، العدد 105)، وجميل هلال («إضاءة على مأزق النخبة الفلسطينية»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2013)، كما عن جهود مراكز الدراسات، مثل المركز العربي للأبحاث (الدوحة) ومديره عزمي بشارة، أو المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات («مسارات»، رام الله) ومديره هاني المصري، اللذين خصصا مؤتمرات وندوات عديدة أغنت النقاش حول هذا الموضوع على امتداد السنوات الماضية.
ما أود قوله ان القصة لا تتعلق فقط بإدراك حقيقة الوضع الفلسطيني، وحاجة الفلسطينيين إلى تجديد حركتهم الوطنية، او توليد حركة جديدة، بالاستناد إلى مراجعة نقدية ومسؤولة للتجربة الوطنية الماضية، وبالاستفادة من ارثها الكفاحي، والبناء على ايجابياتها ومنجزاتها، مراجعة تشمل الأفكار والرؤى وأساليب العمل، وإنما هي تتعلق أيضاً بهذا الفارق الكبير بين الإدراك، أو الحاجة، من الناحية النظرية، والعجز عن القيام بأي خطوة، في هذا الاتجاه، من الناحية العملية.
ثمة أسباب عديدة لهذا العجز، أو التلكؤ، ضمنها تجزؤ مجتمعات الفلسطينيين، وخضوعهم لأنظمة مختلفة ومتباينة، واستناد النظام السياسي الفلسطيني (المنظمة والسلطة والفصائل) الى طبقة سياسية متماسكة تناهز حوالى ربع مليون، واستقلالية هذا النظام عن شعبه في موارده بحكم اعتماده في ذلك، وحتى في نفوذه وشرعيته على الخارج، مع ضعف البنى التمثيلية والمؤسسية، وضعف تمثل الديموقراطية في العلاقات الداخلية، ودعم النظامين الدولي والإقليمي لهذا «الستاتيكو»، او لهذا الجمود، في هذا النظام، والتنازع بين الفصيلين الرئيسيين، والخشية من ضياع منظمة التحرير في ظل هذه الأوضاع العربية والدولية.
مع ذلك ثمة سبب آخر يعزز استمرار حال العجز أو التلكؤ، يتمثل بضعف المبادرة في مجتمعات الفلسطينيين، بسبب غياب وعي الطبقات الوسطى لذاتها، ولمصادر قوتها، وتردد المثقفين الفلسطينيين، وغياب اشكال العمل الجمعية في ما بينهم، وهذا ينطبق على طبقة رجال الأعمال الذين يمتلكون الموارد والاستقلالية، ولكنهم يحجمون عن الانخراط في مجال العمل السياسي العام، أو التوظيف في العمل في مجال القضية الوطنية. لهذا فعلى رغم غنى مجتمعات الفلسطينيين، من حيث الموارد البشرية وتنوعها، إلا أنه لا يوجد حتى الآن، وبعد سبعة عقود على النكبة، منبر فلسطيني مستقل خارج المنابر الرسمية او الفصائلية، لا تلفزيون مستقل، ولا اذاعة (مع التقدير للإذاعات المحلية في الداخل)، ولا مجلة ولا جريدة، ولا مراكز دراسات فاعلة (مع التقدير لمؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز «مسارات» والمراكز التابعة للجامعات في الداخل)، أي لا يوجد منبر يتحدث باسم غالبية الفلسطينيين غير المنتمين إلى الفصائل.
هذه دعوة يمكن ان تضاف الى ما كنت طرحته في مقال سابق («نحو مؤتمر تأسيسي فلسطيني»، «الحياة»، 28/4/2015)، موجه الى الفلسطينيين من المهتمين او من العاملين في المجال العام، من اصحاب الرأي والتجربة، وإلى الأكاديميين والمثقفين والطبقة الوسطى ورجال الأعمال، لاستثمار طاقاتهم للمبادرة الى تنظيم طاقتهم وجهودهم، بالتحول من مجرد قوة رأي، او قوة معنوية، إلى قوة مادية ضاغطة، يكون لها رأيها في شكل النظام السياسي الفلسطيني، قوة معنية بالتأثير في الحراكات السياسية الجارية وفي صياغة المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد الحركة السياسية الفلسطينية.
ليس الحديث هنا عن تشكيل فصيل جديد، فالفلسطينيون ليسوا في حاجة إلى ذلك مع وجود 15 فصيلاً، وإنما الحديث يتعلق بضرورة بلورة هذه الكتلة الواسعة، التي تشكل الغالبية من الفلسطينيين، والتي لها رأي آخر، غير رأي «فتح» او «حماس» أو أي من الفصائل، في تيار، يقدم رؤاه وأفكاره في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، الخيارات والمؤسسات والعلاقات، وأشكال الكفاح، تيار يجيب عن مختلف الأسئلة التي طرحتها التجربة الوطنية الفلسطينية، طوال نصف قرن، بعد ان كفت الفصائل عن المراجعة، او بعد أن نضبت قدرتها على تقديم الإجابات المناسبة على أسئلة كهذه.
ما يعزز من اهمية هذه الدعوة اننا اليوم في صدد مرحلة انتقالية على مختلف الصعد، فعلى الصعيد الفلسطيني، ثمة تآكل في الشرعيات، اي شرعية المنظمة والسلطة، والمجلسين الوطني والتشريعي، ونحن مقبلون على تغيرات واسعة في الطبقة السياسية السائدة. على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، أيضاً، ثمة مرحلة انتقالية ما، يفترض حضّ النقاش في شأن كيفية التعاطي معها، وهذا يشمل التحولات الحاصلة في اسرائيل أيضاً.
على الصعيد الشعبي، أيضاً، ثمة قطاع واسع من الفلسطينيين، لا سيما بعد تهمش منظمة التحرير، بات يشعر بأنه خارج العملية الوطنية الفلسطينية، وأن الكيانات السائدة، في رؤاها وبناها وطرق عملها، باتت متقادمة، ولم يعد لديها ما تضيفه، وأنه آن الاوان مع هذه الأجيال الجديدة، لتجديد العمل الوطني الفلسطيني.
يؤكد ذلك حاجة الفلسطينيين، في مختلف أماكن تواجدهم، إلى مشروع وطني جامع، يوازن بين الممكن والمطلوب، وبين الآني والمستقبلي، وبين الواقع والطموح، من دون القطع التعسفي بين هذين الحدين، ما يعيد الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني، بعد ان بات هذا الشعب على شكل مجتمعات، او «شعوب»، متعددة، مختلفة الاتجاهات والاولويات، بحكم غياب المنظمة، وحصر الخيارات الوطنية بخيار تجزيئي هو دولة في الضفة والقطاع. اي المطلوب مشروع وطني يتأسس على الحقيقة والعدالة، وعلى التطابق بين قضية فلسطين وخريطة فلسطين وشعب فلسطين، مع الاخذ في الاعتبار كل المسائل التي تولدت بعد قيام إسرائيل.
مفهوم ان اي خطوة عملية باتجاه بلورة تيار كهذا ستواجه تعقيدات جمة، من ضمنها أن الطبقة السياسية المهيمنة على النظام الفلسطيني (في المنظمة والسلطة والفصائل)، والتي تعيش على امتيازاتها، أكثر مما تعيش على دورها النضالي، ستقاوم أية مبادرة كهذه، لأنها مشغولة بالحفاظ على مكانتها، مع ذلك فإن كثيرين من المنضوين في الفصائل من المناضلين سيجدون انفسهم فيها، والمهم ان مبادرة كهذه ستحظى على تجاوب فلسطيني لا سيما من الاجيال الجديدة من الشباب.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة عين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة