إذا ألقينا نظرة عابرة على موازين القوى في هذه المنطقة، فسنجد أنها تميل الى مصلحة المجموعة العربية، وفقاً للمعطيات الحسابية على الأقل
«الشرق الأوسط» مصطلح جغرافي متعدد التعريفات يتشكل أساساً وفق أكثر تعريفاته قبولاً من مجموعة الدول الناطقة بالعربية، ودول الجوار الإقليمي التي تحيط بها من جهة الشرق، وهي إيران وتركيا وإسرائيل. ولأن مجموعة الدول العربية كانت ولا تزال تطمح الى إقامة نظام إقليمي خاص بها يقوم على الرابطة القومية، وسط معارضة شرسة من جانب دول الجوار غير العربية، يمكن القول من دون مبالغة أن «النظام الشرق أوسطي» هو «النظام الإقليمي العربي» مع دول الجوار التي تتنافس للسيطرة عليه وإفشاله.
إذا ألقينا نظرة عابرة على موازين القوى في هذه المنطقة من العالم، فسنجد أنها تميل بوضوح الى مصلحة المجموعة العربية، وفقاً للمعطيات الحسابية على الأقل. فمساحة الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية تتجاوز 13 مليون كلم2 (في مقابل 3 ملايين كلم2 لدول الجوار الثلاث)، وعدد سكانها يقترب من 450 مليون نسمة (في مقابل أقل من نصف هذا العدد لدول الجوار الثلاث). ودخلها الإجمالي يزيد عن 3 تريليونات دولار (في مقابل تريليوني دولار). ومع ذلك، تشير موازين القوى الفاعلة والمؤثرة على أرض الواقع إلى أن هذه الموازين تميل في شكل حاسم الى غير مصلحة العرب، بدليل:
1- خسارة الأنظمة العربية الحاكمة معظم جولات الصراع العسكري والسياسي التي خاضتها في مواجهة إسرائيل، واستمرار هذه الأخيرة في احتلال معظم الأراضي الفلسطينية وهضبة الجولان السورية، وتنامي قوتها باضطراد.
2- تمدد النفوذ الإيراني عبر المنطقة ككل وتغلغله داخل عدد كبير من الدول العربية، بخاصة في العراق ولبنان واليمن والبحرين.
3- بروز تركيا كقوة سياسية واقتصادية كبرى، وتعاملها مع الدول العربية بعجرفة إمبراطورية وكأنها لا تزال تعيش عصر الخلافة العثمانية.
لذا تبدو مجموعة الدول العربية الآن، وعلى رغم ما تملكه من موارد وطاقات مادية وبشرية هائلة، كأنها رجل المنطقة المريض الذي تتعجل دول الجوار غير العربي وفاته للمطالبة بحقها في تركته. لقد ارتبط «العالم العربي» وجوداً ودوراً، بظهور الدين الإسلامي في الجزيرة العربية، من ناحية، وبالفتوحات الإسلامية، من ناحية أخرى. ولأن الإسلام دين سماوي نزل على رسول عربي، فقد كان من الطبيعي أن يحمل العرب راية الدعوة إليه بعد وفاة نبيه، وأن يتولوا إعداد الجيوش التي انطلقت من الجزيرة العربية لنشر دعوته في مختلف أرجاء المعمورة، ثم قيادة الإمبراطوريات التي خلَّفتها الفتوحات الإسلامية، خصوصاً إبان فترة حكم «الخلفاء الراشدين» و «الأسرة الأموية»، قبل أن تنتقل راية القيادة والريادة إلى عناصر غير عربية.
يشار هنا إلى تباين الآثار التي نجمت عن الفتوحات الإسلامية تبايناً كبيراً من منطقة إلى أخرى. فشعوب الأقاليم التي تُعرف الآن باسم «العالم العربي» لم تكتفِ باعتناق الإسلام ديناً، وإنما تبنّت لغة القرآن لساناً، وأصبحت اللغة العربية، من ثم، هي الوعاء الثقافي والحضاري الذي ينهل منه الجميع، من دخل من هذه الشعوب في الإسلام ومن بقي على دينه. أما شعوب الأقاليم الأخرى، ومنها إيران وتركيا، فقد تشرّبت دين الإسلام داخل نسيجها الثقافي والحضاري الخاص، واستطاعت بالتالي الاحتفاظ لنفسها بخصوصية «وطنية» أو «قومية» تميزت بها على رغم اعتناقها ديناً جديداً، وراحت تترسخ وتتعمّق باضطراد، خصوصاً مع وصول رياح الأفكار القومية التي بدأت تهبّ من أوروبا طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولأن إيران ظلّت «فارسية» في أعماقها حتى بعد أن أصبحت إسلامية، فلم يكن غريباً أن تتبنى المذهب الشيعي، وهو مذهب عربي في الأساس شأنه شأن بقية المذاهب والمدارس الإسلامية الأخرى، لصلاحيته كأداة قابلة للتوظيف في صراع سياسي تاريخي محتدم مع تركيا السنية. وفي السياق ذاته، يمكن القول أن تركيا ظلّت في أعماقها «طورانية» سواء في ظل الإمبراطورية العثمانية أو إبان المرحلة التي تبنّت فيها «علمانية أتاتوركية» طاردة لكل ما له علاقة بالدين الإسلامي، أو في المرحلة الحالية التي أعادت الدين إلى قلب التفاعلات السياسية، خصوصاً بعد وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة. أما الدول العربية، والتي استحالت عليها العودة إلى جذورها الحضارية القديمة، الفرعونية أو البابلية أو الفينيقية...الخ، فقد وقعت في إشكالية كبيرة حين عجزت نخبها السياسية والفكرية عن ترسيخ فكرة «العروبة» كمظلة جامعة للهويات الوطنية، ما فتح الباب واسعاً أمام المحاولات الرامية الى التعامل مع الإسلام كهوية وكحامل لمشروع سياسي، وليس فقط كدين ينظّم العلاقة بين الإنسان والخالق.
وأياً كان الأمر، فقد ظلّت منطقة الشرق الأوسط ساحة للتنافس والصراع بين إيران وتركيا على مدى قرون طويلة، إلى أن دخلت إسرائيل حلبة المنافسة على هذا الصراع، كطرف ثالث، وذلك عقب تبنّي القوى الغربية المشروع الصهيوني خشية قيام دولة عربية موحّدة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتداعية. ويلاحظ هنا، أن التناغم بين سياسات الدولة الصهيونية الدخيلة على المنطقة وسياسات كلّ من تركيا (الأتاتوركية) وإيران (الشاهنشاهية) كان كبيراً تحت مظلة الراعي الأميركي في نظام عالمي أصبح ثنائي القطبية. كما كان لافتاً في الوقت نفسه، أن تياراً عروبياً قادته مصر الناصرية ودعمه الاتحاد السوفياتي السابق، تحمّل في ذلك الوقت مسؤولية الممانعة لمشروع الهيمنة الغربي على المنطقة وعبئها. غير أن هذا التيار العروبي لم يصمد طويلاً، تحت ضغط تناقضات داخلية وضغوط خارجية كبيرة، وراح يتآكل تدريجياً إلى أن انهار تماماً، تاركاً الساحة للتيار الجديد الصاعد، وهو تيار الإسلام السياسي.
حدثان كبيران أثّرا بشدة في حركة موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط طوال العقود الماضية: الثورة الإسلامية التي اندلعت في إيران في نهاية سبعينات القرن الماضي، ووصول تيار الإسلام السياسي إلى السلطة في تركيا عبر صناديق الاقتراع في بداية القرن الحالي. الحدث الأول أفرز نظاماً سياسياً شيعياً أساسه ولاية الفقيه، وأثار ولا يزال يثير هلعاً في المنطقة من احتمالات «تصدير الثورة»، وفجَّر سلسلة من التفاعلات انتهت بتدمير العراق وأتاحت أمام إيران فرصة كبيرة للتغلغل في أحشاء العالم العربي. أما الحدث الثاني، فقد أنتج تركيا جديدة، مستقرة سياسياً ومزدهرة اقتصادياً، راحت تطرح نفسها تدريجياً كإحدى القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة. ولأن إسرائيل كانت أكثر القوى استفادة من الأعاصير التي هبَّت على المنطقة طوال العقود الماضية، فقد أصبحت الآن في وضع يغريها ليس فقط بالإصرار على تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وإنما أيضا المنافسة بشدة على قيادة هذه المنطقة. أما العالم العربي، الذي ساهمت «ثورات الربيع» في تعميق أزمته بدلاً من مساعدته على الخروج من أسرها، فكان الخاسر الأكبر من كل هذه التفاعلات، وأصبح الآن محشوراً بين ثلاث قوى إقليمية فاعلة تحاول، كل بطريقته الخاصة، أن تقضم منه ما تستطيع هضمه.
لا تتيح الأوضاع الحالية في المنطقة فرصة حقيقية أمام أي دولة عربية، مهما بلغ وزنها، أن تعثر على مخرج منفرد من المأزق الذي تواجهه المنطقة ككل. فالسعودية، أغنى الدول العربية، تواجه تحديات أمنية خطيرة على حدودها الجنوبية، وتقود حرباً إقليمية مكلفة وغير مضمونة العواقب. ومصر، أقوى الدول العربية، تواجه تحديات أمنية لا تقل خطورة ومن جميع الجهات، وبقية الدول العربية مشغولة في معظمها بأزمات داخلية أو حروب أهلية. لذا لم يعد شعار «مصر أولاً» أو «السعودية أولاً»، والذي تمَّ استدعاؤه في أزمات سابقة، يجدي نفعاً في المرحلة الراهنة، فإما أن تنهض الدول العربية معاً أو تسقط معاً.
لم يعد أمام العالم العربي من باب للخروج من المأزق الذي يواجهه إلا بالدعوة الجادة الى بناء «نظام قومي» على أسس جديدة ومختلفة عن تلك التي طرحت خلال الخمسينات والستينات. نظام يحترم الدولة الوطنية ويبني عليها لا على أنقاضها. نظام يكفل حقوق المواطنة ولا ينتهكها. نظام يشرك الشعوب في صنع مستقبلها عبر عملية تكاملية مخططة ومدروسة، وليس نظاماً أبوياً يمسك به شخص يقرر وحده نيابة عن الجميع.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة