السياسات الجديدة التي تتبعها تركيا في المنطقة
الإخفاقات المتتالية التي منيت بها السياسة التركية في الأزمة السورية، سوف تدفع أنقرة إلى إعادة النظر في سياستها الخارجية، ربما باتجاه إعادة تفعيل مساعيها لتطوير علاقاتها مع بعض الدول الغربية وإسرائيل بالذات، بالتوازي مع تبني سياسة حذرة في التعامل مع الأزمات المختلفة، خاصة تلك التي لا تمس مصالح أنقرة بشكل مباشر.
التطورات الأخيرة التي شهدتها تلك الأزمة، على غرار تصاعد الانخراط العسكري الروسي، وتزايد الضغوط التي تمارسها بعض القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل فرض رقابة شديدة على الحدود مع سوريا التي يستغلها تنظيم "داعش" الإرهابي في تجارة النفط جعلت تركيا تتجه تدريجيًّا نحو إعادة النظر في سياستها الخارجية.
وهو ما دل عليه تقرير للمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية من خلال مؤشرات عديدة تتمثل في تحييد الخلافات مع واشنطن، بسبب رفضها المستمر لمطالب أنقرة بإقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سوريا، فضلا عن تصاعد استياء تركيا إزاء الدعم الأمريكي المستمر للأكراد. إلا أن عدم نجاح تركيا في تحقيق أهدافها في سوريا دفعها من جديد إلى إجراء تغييرات في سياستها باتجاه احتواء الخلافات مع واشنطن، وهو ما بدا جليًا في موافقة تركيا على استخدام التحالف الدولي لقاعدة "انجرليك" في العمليات العسكرية التي يشنها ضد تنظيم داعش الإرهابي، إلى جانب اتجاهها في 17 نوفمبر 2015 إلى إلغاء صفقة تأسيس منظومة دفاع صاروخي بعيد المدى فازت بها الصين، والتي أثارت مخاوف عديدة من جانب الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
بالإضافة الى ذلك، تسعى أنقرة إلى إعادة تطوير علاقاتها مع إسرائيل من جديد، وذلك بعد فترة التوتر التي شهدتها في الأعوام الأخيرة، لا سيما في ظل تخوفها من إمكانية اتجاه روسيا إلى وقف صادرات الغاز إليها في إطار الضغوط التي تفرضها بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية، حيث يبدو أنها بدأت تتحرك لمواجهة هذا الاحتمال، من خلال العمل على تنويع مصادر الطاقة، بشكل يمكن أن يساعدها في تجنب الأزمات العديدة التي واجهتها بعض الدول الأوروبية عندما قامت روسيا بوقف إمدادات الغاز إليها.
مؤشر آخر يتمثل في تعزيز الشراكة مع حلف الناتو، حيث دفعت الأزمة التي فرضها إسقاط طائرة "سوخوي 24" الروسية، في نوفمبر 2015، تركيا إلى السعي لتطوير علاقاتها مع حلف "الناتو" الذي أكد دعمه لتركيا في الأزمة، وقام بعد ذلك، وفقًا لتقارير عديدة، بنشر طائرات مراقبة مزودة بنظام الإنذار المبكر "أواكس" داخل تركيا.
ويعتبر تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي مؤشرا آخر، حيث سعت تركيا إلى استثمار أزمة تدفق اللاجئين إلى الدول الأوروبية من أجل تطوير علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي خلال المرحلة القادمة، حيث أشارت اتجاهات عديدة إلى أن تعمدها فرض تأشيرة دخول على السوريين القادمين عبر مطاراتها، يهدف إلى تعزيز مكانتها لدى الدول الأوروبية باعتبارها طرفًا رئيسيًا يمكن أن يساعد في منع تدفق مزيد من اللاجئين إلى الدول الأوروبية بشكل يفرض مزيدًا من الأعباء الاقتصادية على الأخيرة، وهو ما لا ينفصل عن الاتفاق الذي وقعته تركيا والاتحاد الأوروبي، والذي تم بمقتضاه السماح للمواطنين الأتراك بالدخول دون تأشيرة شنجن، ومنح تركيا 3 مليارات دولار مقابل المساعدة في وقف تدفق اللاجئين إلى الدول الأوروبية.
حرص أنقرة على إعادة توطيد علاقاتها مع الدول الغربية يعود إلى اعتبارات عديدة، يتمثل أولها، في إدراك تركيا صعوبة التعويل على سياستها السابقة التي تعتمد على "تصفير المشكلات"، خاصة أن تدخلها في الأزمات الإقليمية المختلفة أنتج تداعيات عكسية بدت جلية في تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة.
وينصرف ثانيها، إلى العقوبات التي فرضتها روسيا بعد أزمة إسقاط الطائرة، والتي لا يبدو أنها سوف ترفع في المدى القريب، وهو ما عكسه تأكيد المتحدثة باسم الحكومة الروسية ناتاليا تيماكوفا، في 15 يناير 2016، على أن "روسيا لا تُخطط لتغيير العقوبات التي فُرضت على تركيا"، فضلا عن اتجاه روسيا إلى ممارسة ضغوط على تركيا من خلال تأسيس علاقات قوية مع الأكراد، وإلى توسيع علاقاتها العسكرية مع أرمينيا، حيث وقّع وزيرا دفاع البلدين في 23 ديسمبر 2015 اتفاقًا حول إنشاء نظام إقليمي موحد للدفاع الجوي في القوقاز، وهو تطور أثار مخاوف عديدة لدى أنقرة، خاصة في التوتر الذي تتسم به علاقاتها مع الدولتين.
ويتعلق ثالثها، بفشل تركيا في تحقيق أهدافها في الأزمة السورية، لا سيما بعد الانخراط العسكري الروسي، ومنح الأولوية لتسوية الأزمة السورية سياسيًّا، واستبعاد إقامة منطقة أمنية عازلة، فضلا عن توجيه اتهامات مستمرة لها، سواء من جانب روسيا أو من قبل بعض الاتجاهات داخل إيران والعديد من الدول الأخرى، بمساندة تنظيم داعش الإرهابي في تجارة النفط.
وإجمالا، يُمكن القول إن اهتمام تركيا بإعادة تطوير علاقاتها مع الدول الغربية واسرائيل يبدو مرحليًّا ويهدف إلى احتواء التداعيات السلبية التي فرضتها السياسة التي تبنتها في الفترة الأخيرة تجاه الأزمات الإقليمية المتعددة في المنطقة.
aXA6IDMuMTM4LjMyLjUzIA== جزيرة ام اند امز