تتنازع المنطقة اليوم أربعة محاور، تختلف إمكاناتها وحظوظها المستقبلية في الهيمنة الإقليمية.
لم يكن يخطر في بال مايلز كوبلاند، صاحب كتاب «لعبة الأمم»، أن نظريته في الصراع الدولي التي يشبّه فيها الدول ببيادق رقعة الشطرنج التي تحركها القوى الدولية الكبرى وفقاً لسياساتها ومصالحها، ستتداعى بهذا الشكل الذي تجري عليه الأمور في الشرق الأوسط. فلعبة المحاور في الإقليم التي باتت تحركها الأيديولوجيا، تدور بين دولٍ ولاعبين من خارج إطار الدول، وشبكة تحالفات بين هذه وتلك. واللاعبون في منطقة الشرق الأوسط، دولاً أو غير دول، يظهرون في ساحة المنافسة أو الصراع أكثر استقلالاً عن نفوذ الولايات المتحدة التي اختارت النأي بنفسها عن مشكلات المنطقة وأزماتها في السنوات الأخيرة، وإن كانت تُكافح حالياً حتى تحافظ على البقية المتبقية من نفوذها فيها.
تتنازع المنطقة اليوم أربعة محاور، تختلف إمكاناتها وحظوظها المستقبلية في الهيمنة الإقليمية.
أحد هذه المحاور هو المحور «الإخواني» بقيادة جماعة «الإخوان»، مؤيدة بتركيا وقطر وعدد آخر من حركات الإسلام السياسي، منها حركة «حماس» وحركة «النهضة» التونسية و «إخوان» سورية وليبيا وحزب «العمل الإسلامي» في الأردن. والمحور الثاني هو المحور الذي يدور في فلك تنظيم «داعش» في سورية والعراق، وتوابعه في عددٍ من دول المنطقة، ومن ضمنها مصر وليبيا واليمن ومعظم دول شمال أفريقيا عموماً، وله تمدد متنامٍ في أفريقيا جنوب الصحراء. ويتركز المحور الثالث حول إيران، ويضم نظام الأسد في ما تبقى له من سيطرة على الأراضي السورية و «حزب الله» اللبناني و «جماعة الحوثي» في اليمن والحشد الشيعي والقوى السياسية الشيعية في العراق، إضافة إلى شبكة من ميليشيات أخرى وخلايا نائمة وجواسيس، ينشطون بالتخريب في المنطقة.
أما المحور الرابع، فيضم قوى المشروع العربي، الداعمة للاستقرار في المنطقة، أي دول الاعتدال العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر والأردن والبحرين والكويت والمغرب.
والسؤال الآن، ما حظوظ هذه المحاور في المستقبل؟
يمكن القول إن المتغيرات الراهنة بالمنطقة تدفع للاعتقاد بأنه لا مستقبل حقيقياً للمعسكر «الإخواني». فقد عزّز الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سلطته، بعد إزاحة الإخوان من الحكم بثورة شعبية في منتصف العام 2013، ونفذ ما وعد به من خريطة مستقبل مصر بانعقاد مجلس النواب المنتخب، ومرت الذكرى الخامسة للثورة من دون تحديات جدية لنظام حكمه على رغم وعيد «الإخوان». وثمة تقدم مضطرد في الحرب على الإرهاب، رغم حصول بعض الحوادث الإرهابية هنا أو هناك يهدف في معظمه إلى الإرهاب النفسي للمواطنين أكثر من أي شيء آخر، ما ساهم بدوره في زيادة وتراكم النفور الشعبي من «الإخوان» وحركات الإسلام السياسي عموماً. ثم إن جماعة «الإخوان» نفسها، بعد الضربات المتتالية من أجهزة الدولة، تعاني أزمة داخلية وصراعاً غير مسبوق على السلطة، وهو مصير لم يتوقعه أشد المتشائمين للجماعة عشية تنحي الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك قبل خمس سنوات.
أما حركة «حماس» فقد باتت محاصرة في غزة، وفقدت شهيتها لدخول معارك لاختبار الإرادة مع إسرائيل أو غيرها. كما أن «إخوان» الأردن منقسمون على أنفسهم، فيما تضاءل نفوذ نظرائهم السوريين في ائتلاف المعارضة. وعلى رغم أنّ «النهضة» أصبحت حزب الغالبية في البرلمان التونسي حالياً بعد انقسام منافسها «نداء تونس»، فإنّ الغنوشي ورفاقه أدركوا أن الحكم في تونس لقمة يصعب ابتلاعها في ظل الصعوبات التي يواجهونها في الداخل، والرفض الشعبي لـ «إخوانهم» في الجوار القريب. والأهم من ذلك هو اتجاه تركيا، الداعم الرئيس للجماعة، إلى تغيير أولوياتها الخارجية، نظراً إلى الخسائر الكبيرة التي منيت بها والنتائج الهزيلة التي حققتها في أعقاب ما سمي «الربيع العربي»، باتجاه التقارب، وربما التحالف مع السعودية لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.
معسكر «داعش» بدوره تراجع زخمه كثيراً، ولا سيما بعد التدخل الروسي في سورية، الذي جعل بدوره أميركا وحلفاءها الغربيين يعيدون التركيز على محاربة «داعش» في سورية والعراق. وكان لهجمات باريس وتنامي نفوذ «داعش» في الساحل الليبي، دور كبير أيضاً في حشد الموقف الدولي ضد هذا التنظيم، لدرجة أنّ قيادة الأركان الأميركية باتت تتحدث عن تدخل قريب في ليبيا لوقف تقدم «داعش».
صحيح أنّ القتال ضد «داعش» لا يزال أبعد من أن يكون حاسماً، وأنه ينبغي أن يكون أكثر تركيزاً وتحديداً، على المستوى العملياتي والاستراتيجي. ولكن من الواضح أنّ «خلافة البغدادي» تتآكل باستمرار، ولا تمكنها المنافسة على المستوى الأعلى من صراع القوى الإقليمي.
ومن ثم، يبقى الصراع الأساسي في المنطقة متركزاً بين المشروع العربي ومشروع الهيمنة الإيراني، من دون أن يعني هذا زوال خطر «المشروع الإخواني» تماماً، الأمر الذي يحتم علينا رفض أي مقترح للتحالف مع بقايا «الإخوان» للوقوف في وجه المشروع الإيراني.
وإذا كان ثمة عوامل تعطي المشروع الإيراني قوة دفع حالية في المنطقة، أهمها التدخل الروسي الذي أنقذ نظام بشار الأسد من التداعي، وتغير السياسة الأميركية تجاه إيران بعد الصفقة النووية والميل إلى النظر إليها باعتبارها جزءاً من الحل وليس المشكلة في الإقليم، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، وتوظيفها «حروب الجيل الخامس» ضد دول المنطقة، فإن المستقبل يبدو في مصلحة جانب المشروع العربي للاستقرار. فإضافة إلى أنّ أهدافه تحظى بقبولٍ واسع إقليمياً ودولياً، شعبياً ورسمياً، فإن التحالف العربي للقضاء على الفوضى يكتسب أيضاً حلفاء كل يوم. نظراً إلى قدراته الاقتصادية وشبكة علاقاته الدولية وتنامي قواه الناعمة والصلبة. ولنتذكر كيف لحقت السودان بهذا المعسكر، بل وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران حليفها السابق. وكيف سعت تركيا إلى توثيق علاقتها بالسعودية واقترحت إنشاء «مجلس تعاون استراتيجي» مع الرياض، كما أن هناك حديثاً عن رغبة وتحركات تركية لإعادة تطبيع العلاقات مع مصر بمساعدة من السعودية التي تربطها علاقات وثيقة بالبلدين، والتي ترى أن وجود محور سعودي- مصري- تركي أمر مهم جداً لمواجهة محاولات إيران فرض هيمنتها على المنطقة، وخصوصاً في منطقة الخليج. فضلاً عن إعلان السعودية تأسيس «تحالف إسلامي» واسع لمحاربة الإرهاب والقضاء على «داعش» والحركات الإرهابية الأخرى ونفوذها داخل دول «منظمة التعاون الإسلامي»، إضافة إلى ما حققه التحالف العربي بقيادة المملكة من تقدم ملموس في مساندة الشرعية في اليمن.
إن نجاح المشروع العربي للاستقرار في المنطقة يعني ببساطة أن ما طرحه كوبلاند من تحليل في «لعبة الأمم»، لا ينطبق على السياسة الدولية في الشرق الأوسط، فقد أثبتت دول الاستقرار العربي أنها تتحرك من تلقاء نفسها، وباستقلال عن سياسات الدول الكبرى على رغم العلاقات الوثيقة التي تربطها بتلك الدول، وهي إنما تتحرك لتحقيق مصالح شعوبها وأمتها العربية في الاستقرار والتنمية والرخاء، وتدرك أن ما تقوم به ليس بالأمر اليسير، وأنها ستواجه تحديات عدة في سبيل ذلك، لكنها تدرك في الوقت ذاته أن لا خيار أمامها، فالقضية باتت كما قال شكسبير على لسان هاملت: «إما أن نكون أو لا نكون».
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة