حالة السيولة العسكرية، واستمرار الحملة الجوية الروسية كغطاء لتقدم قوات الأسد، من شأنه أن يُحبط الجماعات المسلحة وتنظيمات المعارضة
رغم التوافق الروسى الأمريكى على بدء عملية سياسية خاصة بالأزمة السورية، إلا أن أكثر المتفائلين لم يكن يتصور أن اجتماعات جنيف التى انفضت قبل أن تبدأ قد تثمر بالفعل شيئا ملموسا، مثل وقف إطلاق النار، أو البدء فى توفير مواد الإغاثة الإنسانية لمئات آلاف السوريين المحاصرين فى العديد من القرى والمدن، والأهم أن تبدأ عملية بناء ثقة بين المعارضة السورية بأطيافها المختلفة التى ذهبت إلى جنيف وبين الوفد الحكومي. و لا أعتقد أن تأجيل بدء المباحثات الذى أعلنه مبعوث الأمم المتحدة دى ميستورا حتى 25 فبراير الحالى قد يُحدث فرقا كبيرا، فالمسافة الفاصلة بين الطرفين كبيرة للغاية، كما أن حالة التوازن العسكرى على الأرض فى وضع سيولة وتغير سريعة، وتبدو مؤشراتها الأولية فى صالح حكومة الأسد وقواته والمتحالفين معه، وهم الذين يتقدمون فى أكثر من اتجاه؛ ناحية حلب وإدلب فى الشمال الشرقي، لإستعادة السيطرة عليها وعلى طرق فرعية ورئيسية تحول بين جماعات مسلحة كجبهة النصرة (القاعدة) وأحرار الشام (سلفيون جهاديون) وبين مصادر تمويلها بالأفراد والأسلحة والمؤن كما يؤدى إلى حصارها فى مواقع محددة يسهل ضربها لاحقا، وكذلك فى اتجاه الجنوب إلى درعا حيث تم بالفعل استعادة السيطرة على عدد من القرى والبلدات.
حالة السيولة العسكرية، واستمرار الحملة الجوية الروسية كغطاء لتقدم قوات الأسد، من شأنه أن يُحبط الجماعات المسلحة وتنظيمات المعارضة السياسية، وهو الإحباط الذى دفع بوفد المعارضة السورية بمغادرة مقر المفاوضات احتجاجا على ما وصف باستمرار التدخل العسكرى الروسي، لأن الأمر باختصار يمثل خصما من مواقعهم وبالتالى خصما من أوراق الضغط التى يسعون إلى توظيفها ضد الأسد وحكومته فى المفاوضات أو على الأرض ذاتها. والحديث الآن يدور فى دوائر الغرب حول كيف يمكن حماية الجماعات المسلحة من الانهيار أو التفكك والتى نُظر إليها من قبل كبديل لنظام الأسد أو على الأقل أنها أداة رئيسية لاسقاطه عسكريا. ولا شك أن استخدام جماعات مسلحة ومقاتلة أيا كان انتماؤها الايديولوجي( دينى أو مذهبى أو سياسى بحت) من قبل قوى إقليمية مدعومة دوليا لإسقاط نظام حكم يمثل تطورا خطيرا بكل المقاييس، ويفتح أبواب جهنم على الجميع، خاصة فى البيئة العربية والمُحاطة بقوى إقليمية طامعة وتستغل كل فرصة للإجهاز على كل ما هو عربي، وتحاول دائما التمدد فى جوارها العربى بما يعيد لها أمجاد الماضى الاستعمارى كما هو حال تركيا أردوغان، أو يمنحها هذا التمدد مزيدا من الحصانة والقوة فى مواجهة الغرب كما هو حال إيران.
وتاريخيا فإن فشل الجماعات المحلية أو المُخلطة محليا وخارجيا فى أداء مهمتها، يقود مباشرة إلى فرض المهمة مباشرة على القوى الداعمة فى تصحيح ما تراه هزيمة أو على الأقل بدايات انكسار. ولا يخرج الوضع الراهن فى سوريا عن هذا المسار التاريخي، بل يؤكده ويوفر له سابقة أخرى بكل ما فيها من تداعيات يصعب التحكم فيها. وفى هذا السياق نرصد ثلاثة تطورات مهمة؛ أولها الاستعدادات التركية للتوغل العسكرى البرى فى الأراضى السورية، وهو أمر تسعى إليه أنقرة منذ فترة طويلة سابقة بحجة إقامة منطقة آمنة يتجمع فيها السوريون النازحون من قراهم ومدنهم، على أن تظل تحت حماية الجيش التركى برعاية الناتو والتحالف الدولى لمواجهة داعش بقيادة واشنطن، والهدف التركى واضح ولا يحتاج إلى بيان، وقوامه منع أى فرصة لإقامة كيان كردى سورى قريب من الحدود، وزيادة الضغوط على نظام الأسد سواء بقى فى دمشق أو أقام له دويلة فى غرب البلاد، فضلا عن تقسيم سوريا جغرافيا ومع الزمن يصبح الجزء المُسيطر عليه تركيا جزءا من الدولة التركية المُوسعة.
وثانيها إعلان الرياض استعدادها التدخل البرى فى سوريا لمحاربة داعش إذا اتُخذ قرار جماعى من قبل التحالف الدولى بهذا الأمر. ولعل الشرط الخاص بقرار جماعى للتحالف يقلل من فرص التدخل البرى فعليا، ولكن إبداء الاستعداد فى حد ذاته علامة كبرى على الاستمرار فى المواجهة مع إيران التى بات لها حضور طاغ فى المشهد السورى سياسيا وعسكريا، وإشارة إلى الاستعداد للذهاب إلى أبعد مدى لإسقاط نظام الأسد. وليس سرا أن فكرة التدخل البرى فى سوريا من قبل دول التحالف بقيادة واشنطن ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى إبريل الماضى حين زار أمير قطر واشنطن والتقى الرئيس أوباما وطرح عليه فكرة تدخل تركيا البرى مع قوات خاصة من دول عربية أخرى وربما إسلامية لمزيد من شرعنتها دوليا، من أجل الإسراع باسقاط الأسد ثم بعد ذلك يتم الإجهاز على تنظيم داعش، وهو ما وضع على الطاولة أمريكيا ولكنه لم يتحول إلى أمر عاجل آنذاك. ويبدو أن التطورات العسكرية الاخيرة بعد التدخل الجوى الروسى أعاد مرة أخرى الاعتبار لفكرة التدخل البرى لعدد من دول الإقليم. أما الأمر الثالث فهو ما أعلنته الولايات المتحدة عن الاستعداد لمناقشة الطرح السعودى الأخير بعد الترحيب به على لسان وزير الدفاع الأمريكى اشتون كارتر.
التطورات الثلاثة لا تعنى أن هذا التدخل البرى سيحدث غدا، أو أنه بلا عقبات، فالأمران مؤكدان. فمن أين سيمر هذا التدخل البري، من أراضى الأردن جنوبا أم تركيا شمالا أم كليهما، وهل سيقتصر هدفه على دحر داعش الموجود فى أقصى الشمال السورى والشرق ناحية العراق، وكيف سيكون الطريق وهناك قوات للنظام موجودة فى أكثر من موقع ومكان، ثم من سيعطى هذا التدخل شرعية حدوثه، ومن سيوفر الضمانات بعدم تقسيم سوريا ومنح أجزاء منها لهذا الطرف أو ذاك. ناهيك عن أن سماء سوريا الآن واقعة تحت السيطرة الجوية الروسية، فهل سيكون هناك تدخل برى بعد التنسيق مع موسكو، أم سيكون من قبيل فرض الأمر الواقع وليكن ما يكون من مواجهات أكبر من مجرد دحر داعش.
والواقع أن شروط التدخل البرى الناجح ليست متوافرة بعد ما دام الصراع والسيولة العسكرية تجرى على قدم وساق. وربما يكون هذا التدخل ضروريا كأحد العناصر التكميلية للعملية السياسية فى حال توصلها إلى اتفاقات تكون بحاجة إلى من يحميها على الأرض، شرط أن يكون هؤلاء الحُماة مقبولين من كل أطراف الصراع. أما قبل التوصل إلى نتائج سياسية، فوصفة التدخل البرى تعنى حربا إقليمية ضروسا وبلا نهاية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة