فاكرين خليهم يتسلوا التى قالها مبارك، كان فى ظاهرها ينكر متهكما على النخب السياسية حقها فى الاعتراض على تزويره إرادة الناس
فاكرين «خليهم يتسلوا».. التى قالها مبارك..؟!
كان فى ظاهرها ينكر «متهكماً» على النخب السياسية- المهترئة بالأساس- حقها فى الاعتراض على استبداده وتزويره إرادة الناس..!
وكان فى حقيقتها يُنكر على المصريين- فى المطلق- حقهم أن يكونوا أناساً طبيعيين لهم نصيب من حرية فى اختيار وتعبير.. بل والأهم لهم طموح إنسانى مشروع نحو دولة ترعى وتعدل وتضمن الكفاية وتحفظ الكرامة..!
«خليهم يتسلوا» كانت صيحة كِبْرٍ من عقل مُتخم بالسلطة.. يستكثر على البشر الحلم.. ويستكثر عليهم الإنسانية.. ويستكثر عليهم الشعور بالضيق أو الغضب أو حتى الإحباط.. بل ويستكثر صرخة «آه» عند الوجع!!
الآن تتكرر المأساة ولكن مبارك ليس شخصاً.. بل «هو» ممارسات ووجوه مماليك أخرى.. تتحرك بذات الوحشية تجاه حلم المجتمع وطموحه المشروع فى أن يكون مجتمعاً من البشر لا مما دون البشر.. تؤثم حلمه.. تنهره.. تريق دم الأمل صباح مساء.. تسبه بأقذع الألفاظ.. تتهمه بالسفه.. وتتهمه بالعمالة.. تلصق به كل نقائصها من باب عقد الإبدال والخوف من حساب قادم.. تبدد موارده وفرص مستقبله.. تستخدم سياسة الأرض المحروقة حتى لا تبقى أطلال تشهد على الجرم والبذاءة..!
هؤلاء من كل قطاع ومهنة.. يدخلون فى معركة صفرية ضد عموم المصريين مدعين الدفاع عن حقوقهم.. يحملون اسم الدولة زوراً.. ويحملون اسم الوطن زوراً.. ويحملون اسم الدين زوراً.. ويحملون اسم الفضيلة والأخلاق زوراً.. والدولة والوطن والدين والفضيلة كلها منهم براء..!
يحتكرون المبانى والمعايير.. فـ«بذاءتهم» فصاحة.. و«تآمرهم» وطنية.. و«استباحتهم» لحق الناس فى الحلم غِيرة على الدولة.. و«نهشهم» أعراض البشر فضيلة وأخلاق..!
يَسُبون كل فضيلة من غيرهم.. ويرون كل ما عداهم رجزاً حتى ولو الُطهر ذاته..!
أقول هذا فى معرض جدل دائر حول شابين عشرينيين قرّرا أن يكون تعبيرهما عن موقفهما من الشرطة هو إظهار الغضب والإحباط فى صيغة التهكم المُهين..!
استخدما ثقافة مواقع التواصل الاجتماعى فى النيل من الخصم أو المختلف بإنزال أكبر قدر من الإهانة الجارحة به لفظاً أو فعلاً.. هذا ما فعلوه.. فكان فعلاً مشيناً من معين الأفعال الشائنة التى نحياها.. والتى يتجاوزهما فيها كثير ممن انتقدوهما!
هما يريان الشرطة خصماً عدواً لأنها تراهما وجيلهما كذلك وتعاملهما وجيلهما كذلك..!
والأنكى أنهما وكثير من جيلهما يرون الدولة بمؤسساتها خصماً عدواً..!
تلك هى الحقيقة بقبحها.. وإذا أردنا تجميلاً نكون قد كذبنا وهزلنا فى موضع يستوجب الصدق والجد..!
الشابان فى مراهقة وعى قد تستأهل الأدب.. ذلك هو الادعاء الذى يؤسس لجفوة مؤسسات السطوة معهما.. ويؤصل لمعاداتها لهم ورغبتها المحمومة فى عقاب جيل كامل.. وهو ادعاء متهافت.. وإلا لما تعالت ذات المؤسسات على صحبة وشراكة راشدى الوعى أو حتى الحنو على أصحاب طفولة الوعى..!
وإذا أردنا تقييما سلوكياً وأخلاقياً للفعلة.. فبقدر قبولنا أو رفضنا لسلوك وأخلاق وممارسات تدور على صفحات المجتمع الإلكترونية.. والمعاشة - فى شوارعه وفضائياته وبرلماناته ودروب حياته كلها تعليماً وصحة وأمناً وقضاءً وإعلاما.. فيها البذاءة والانحطاط وإهانة المختلف وتكدير الخصم ومحاولات الإيذاء البدنى والنفسى.. كل ذلك مغلف فى نفاق وادعاء.. وقشرة من فضيلة وتدين الظاهر - يكون «صدق» قبولنا أو رفضنا لسلوك وأخلاق وممارسات هذين العشرينيين..!
ولأن تقييماً سلوكياً لفعلة الشابين واجب.. فالتقييم السلوكى للسياق العبثى الذى نحيا فيه أوجب.. وبغير ذلك نكون قد نافقنا وكذبنا..!
ولكن الأولى بالتقييم فى الحقيقة هو..
من الذى أعطى الحق للمماليك أن يعلنوا من خلال تلك الحادثة- وما يماثلها- تجريدات حربهم الصفرية «لإذلال» عموم المصريين.. ولانتزاع اعترافات عملية بأن الخطأ والعقاب قَدَرُ المواطن وحده.. ولا نصيب لمؤسسات سلطته فيها..؟!
من شَرعن لهذه الفئة- الباغية دوماً- «تكدير» المجتمع والحط من عقله..؟!
من شرعن لهم هذا «الخلط» المتعمد بين تقديس تضحيات كل مصرى صادق من أجل وطنه- أيا ما كان موقعه- فى مؤسسة أمنية أو خارجها.. وبين الإقرار بأن تلك المؤسسات فوق الوطن وفوق البشر..؟!
ومن الذى أصل أن شرط احترام مؤسسات الأمن والسيادة يقترن بمذلة المواطن وإقراره بعبودية من نوع ما.. لها أو لغيرها..؟!
من الذى قال يوماً وفعل يوماً «نحن سادة وغيرنا عبيد».. و«إحنا أسيادهم»..؟!!
من الذى زين لهؤلاء المماليك تلك الطمأنينة لكى يعلنوا حرب «خليهم يتذلوا» على عموم المصريين صباح مساء على مدار عامين أو يزيد.. إلحاقاً بعقود سبقت..!
«خليهم يتسلوا» أودت بمبارك لأنها كانت خبيئة نفس تنبئ عن قناعة المستبد بحقه فى «احتكار» السلطة و«احتقار» الناس.. «خليهم يتذلوا» هى ممارسة عملية «لاحتقار» المصريين فى وطنهم.. وليس بمثل هذا تقام الدول ولا بمثل هذا تصان أمانات الأوطان..!
من يبارك فعل هؤلاء ويُزَيّنُه يكره مؤسسات الأمن التى يتغنى باسمها.. ويدنس تضحيات شهداء صدقوا وطنهم.. ويكرس جفوة نفسية تزداد عمقاً كل يوم بين تلك المؤسسات والمواطن.. جفوة تورث التطرف والخاسر فيها هو الوطن ذاته.. قبل العدول فى تلك المؤسسات..!
التطرف يولد تطرفاً مماثلاً.. محاولات مماليك الماضى لتفريغ المجال العام ولضمان التطهير العنصرى واهمين إعادة دُوَلِهم التى سقطت بوجهيها فى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو.. لن تنبئ بخير وستأتى بكل تطرف..!
ولن يستطيعوا أن يتصوروا ما تجود به قريحة بشر سُدت أمامه آفاق المستقبل.. وحوصر حتى فى حلمه بأن ذلك الأفق سينفتح من جديد..!
المؤكد أن..
مؤسسات السيادة حقها مصان فى الاحترام بقدر احترامها لسبب وجودها وإخلاصها فى القيام بواجبها..!
وأن مؤسسات السيادة لا يليق بها أن تحصل على حقها فى الاحترام قهراً.. ولا على حقها فى الهيبة بإذعان من مواطن.. ولا تحتاج إلى مماليك أو مرتزقة للدفاع عنها..!
مؤسسات السيادة محتاجة أن تكون فى قلوب عموم الناس والتى هى منهم وهم منها.. فإن ظنت أن بيدها الأعناق التى تخضع.. تبقى القلوب بين يدى خالقها لا تنحنى لغيره..!
وعليها أن تزيح عن تصوراتها أن سبيل عقاب من أجرم وأخطأ.. يبدأ- من باب إثبات الهيبة- بإذلال المواطنين العدول المسالمين.. الداعمين لوجود تلك المؤسسات بالمنطق وبالصبر وبقبول التجاوز.. وبالصفح عن محدودية الكفاءة..!
تظلم تلك المؤسسات نفسها قبل أن تظلم وطنها وشعبها إذا وعت غير ذلك وتبنت غير ذلك.. ونحن لا نريد لها ولا لشعبنا ولا لوطننا ظلماً..!
الإيمان بكرامة المواطن وبأنه سيد فى وطنه حتى وإن قَصُرَ هو عن استحقاقات السيادة ومسؤوليتها - وتوجب الأخذ بيده تربية وتأهيلاً - هى من عقيدة الدولة الطبيعية ولن أقول الراشدة أو القائدة غير التابعة..!
أما الطنطنة بإنسانية الناس من باب التسويق السياسى.. أو من باب تسكين فورات الغضب واحتوائها بشكل تكتيكى.. أو من باب دغدغة مشاعر بالتمنى وحلو الكلام.. مع الكفر العملى بتلك الإنسانية.. ظلم للنفس.. لن يبنى مستقبلاً ولن يقيم دولة..!
آن لنا أن تغشانا لحظة تواضع لله ثم للوطن نذكر فيها مرة أخرى - وقبل فوات أوانها - أن..
تجبر الغلظة والسطوة والخوف لا يصنع هيبة ولا يبقى كرامة..!
فلا كرامة لوطن إلا فى كرامة مواطن.. ولا هيبة لدولة إلا فى هيبة قانون.. ولا بقاء لملك ولا لسلطة إلا فى حقيقة عدل..!
فكِّرُوا تَصِحُّوا..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة