يبقى هو آخر المحاربين فى زمن الظلمة.. هو ينشر نوره ساطعا لينير كل الزوايا فى العقول المظلمة..
معرض آخر للكتب، وربما تَسمية معرض بحد ذاتها ليست هى الأنسب حيث يوضع الكتاب فى مصاف المكنسة الكهربائية أو الأدوات المنزلية والكماليات. ففيما نقول بأننا أمة لا تقرأ وعلينا أن نحتفى بالكتاب لا نزال نخاف الكتاب كما الزمن الأول، ربما لأن للكلمة وقعها وللفكرة خطرها !!
يكرر هو دوما.. هو الجالس بسخريته فى تلك الزاوية يردد «لا تتركوا الكتاب وحيدا»... ها هو لا يزال يرثى وحدة الكتاب قبل زمن الإنترنت وبعدها.. هو الحاضن للحرف، العاشق للكلمة، المتنفس لطعم الفكرة ومذاق الانفتاح على الكون عبر جملة أخرى تكتب للمرة الأولى أو ربما تنقش فى مكانة جديدة..
يعيد هو، فى كل معرض وكل عام وعلى جدران مكتبه المنقوش بصوره المحببة، وضعها شعارا له «لا تتركوا الكتاب وحيدا» ربما لأنه كما هو الأكثر استشراقا للقادم العارف بأن وحشة هذه الوحدة ستزداد مع التطور التكنولوجى الساحق.. هو قبل غيره عرف أن القادم لن يكون فى صالح الكلمة المحفورة فوق الورق بل سيأتى الكمبيوتر ثم الآى باد والكندل أو حتى الهاتف النقال الذى سرق الكتاب من أيدى المسافرين والرحالة.. عرف هو الأكثر عشقا للكتاب بأن الحداثة ستسدل الستار عليه حتى تفنن بعض الكتاب والمثقفين فى الكتابة عن نهاية الكتاب أو موته بالسكتة التكنولوجية.. تكدس الغبار على المكتبات وأغلقت دور النشر أو دمجت بإرادتها أو غصبا عنها عندما ابتلعت دور النشر الكبيرة مراكز النشر الصغيرة ليصبح الكتاب سلعة فى السوق كما الصابون والثلاجة !!!
***
لن أنسى تلك المكتبة الكبيرة الفاخرة حد الإبهار فى أحد مكاتب تلك الشخصية المدعية للثقافة تحت عباءة السلطة والعائلة. وفيما أنا أبحث بين العناوين، همس أحدهم لا تحاولى أن تمدى يدك نحو أى من هذه الكتب لأنها كلها مجرد قطع خشبية تفنن أحدهم فى الخط عليها باسماء كتب التراث والقص العالمى لتزيين مكتبة الأمير المثقف جدا!!!
يأتى الكتاب ليكون مادة لمواسم المعارض، يحتفى به بعض الشىء. ربما لمجرد التأكيد أننا شعوب وحكومات أو سلطات تهتم بالثقافة وترعاها.. ولكن يتعرض الكتاب كما غيره من «البضائع» إلى التفتيش والتمحيص حيث يسير الرقيب فوق الحروف وبين زوايا الكلمات يفتش عن حرف خارج أو كلمة قد لا تلائم ذوقه ليطلق عليها لفظ جارحة للذوق العام، هو الذى لا يعرف أصلا ما هو الذوق العام أو ربما هو من ساهم فى إفساده وتحويله إلى ما آل إليه اليوم من ضيق فى الأفق وانغماس فى اللذات الحسية فقط.
تصادر الكتب فى المعارض التى عليها أن تحتفى بالكتاب أكثر من أن تصادره أو تراقبه أو تتلصص على الكلمات.. لا أحد يعرف قيمة الكتاب كهو.. كبير القراء وشيخهم دون منازل.. يتربع على عرش لا يعتليه أحد. هو صائد الكتب الجيدة. يعرف بحاسته، التى لا تخونه أبدا، ما هو الكتاب الجيد ومن هو الكاتب الذى مهما صغر إلا أنه سيكون له مستقبل يوما ما.. هو صانع نجوم الكلمة.. هو العاشق الذى يتنفس الكلمات بين أوراق شديدة البياض تنقش عليها الأحرف بعناية النحات أو الفنان.. عناية لا يضاهيه فيها أحد..
هو الأجمل بين عشاق الكلمة.. هو الذى يرى ان معارض الكتب ما هى إلا معابر للصلاة والوقوف احتراما ببهجة الكلمة والفكرة والحرف والفاصلة..
***
معرض آخر للكتب يردد المسئولون عنه بأنه لن يصادر سوى الكتب التى تنشر الكراهية والحقد.. يرددون لفظ مصادرة دون أن يرف لهم جفن حتى أصبح اللفظ، أى المصادرة، مرادف لمعارضنا.. فقط فى بلادنا ترتبط الكلمة بمعارض الكتب تحت تبريرات وحجج منها ازدراء الأديان أو القدح أو الذم فى الذات الإلهية أو الملكية !!! كم من المعارض تفننت فى التنافس على عدد الكتب التى تمت مصادرتها وفى نفس تلك العواصم يردد المسئولون بأنهم يفتخرون بافتتاح المراكز البحثية وأفرع الجامعات العريقة !!!!.. هى نفس العواصم التى تزهق فيها أرواح الأفكار فى محاولة للقضاء عليها قبل أن ترتحل وتنتقل من عقل إلى آخر كالفراشة تبحث عن بقعة نور ولكنها فراشة لا تحترق بل تزداد إشراقا كلما مرت الفكرة بتحولات حتى تصبح عمل أو قناعة..
لا يزالون هم يخافون الفكرة أكثر من خوفهم من سلاح الرعب بقطع الرءوس على شبكات التواصل الاجتماعى.. لا يزالون يفتشون الكتب وداعش تنهش فى عقول الشباب.. لا يخافون ثقافة الموت وينتفضون عندما يتغزل شاعر فى جسد امرأة أو يمرر أصابعه بين خصلات شعر حبيبته أو يتحدث عن الدكتاتوريات المرتدية لأزياء ملونة.. أو كاتب يراجع الأديان فيتهم بكسر الصنم الأول!!!
معارض للكتب يبقى الكتاب فيها وحيدا يصارع الفكر الواحد المتجمد وهم يقولون عنها أنها سوق عكاظ !!! معارض تضع الكتاب فى خانة المتهم حتى تثبت برائته عبر كثير من الجهلة، أصحاب الأقلام المرتعشة يمسحون الصور بأقلام سوداء فى الغرف المظلمة.. كيف يأتى الظلام بالنور؟ كيف يحبس الكتاب فى زنازين الجهل والتعصب والطائفية..
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة