لم يخفق قلب فى مصر إلا وكانت أم كلثوم عازفةً على أوتاره، ولم يحلق خيال فى بر مصر إلا مع أنغام أم كلثوم تنساب مع نسمات الصيف
لم يخفق قلب فى مصر إلا وكانت أم كلثوم عازفةً على أوتاره، ولم يحلق خيال فى بر مصر إلا مع أنغام أم كلثوم تنساب مع نسمات الصيف من شباك بعيد فى الأطراف النائية…لا توجد لغة قادرة على أن تصف نشوة من كان منهمكاً فى المذاكرة على لمبة الجاز نمرة خمسة… ثم يأتيه فجأة صوت أم كلثوم يتهادى من هناك، من حيث لا يعلم.
انتقلت الى المدينة الجامعية فى جامعة القاهرة فى أواخر أيام السادات، وجدت الجماعة الاسلامية فى المدينة ترهب صغار الطلاب القادمين حديثا اذا خرج صوت المذياع بأغانى أم كلثوم من غرفة أحدهم، فقد كان الاستماع اليها نوعاً من المعاصي. ظللت أطرب لصوت أم كلثوم وأحفظ أغانيها، وفى ذهنى رفض التيارات الاسلامية لها، وهجوم الشيخ كشك عليها، وظلت أم كلثوم فى ذهنى مطربة رائعة فحسب … وخلال اقامتى فى الولايات المتحدة، ذهبت فى عام 1997 لحضور الاجتماع السنوى للجمعية الأمريكية لعلم الأنثروبولوجى (علم الانسان)، وهو تجمع يُحشد فيه علماء الأنثروبولوجيا ودارسوها من كل أنحاء أمريكا الشمالية والعالم، وهناك وجدت أستاذتى وأمى الراحلة الدكتورة منى أبوالفضل رحمها الله رحمةً واسعةً، ومنها عرفت أن هناك عرضاً خاصاً لفيلم وثائقى عن أم كلثوم، سيتم تنظيمه ضمن فعاليات فرع أنثروبولوجيا الأصوات، وهوتخصص يدرس أثر الثقافة على صناعة الصوت الغنائى النادر.
وذهبنا سويا الى القاعة التى سيتم فيها عرض الفيلم قبل موعد العرض بأكثر من ساعة، فاذا بها قد أُغلقت لزيادة عدد الحاضرين عن قدرة القاعة على الاستيعاب، وهنا طلبت من أستاذتى أن تسمح لى بالحوار مع الشخص المسئول عن الدخول للقاعة، وذلك لأن أستاذتى تتحدث الانجليزية بلكنة ملكية بريطانية، وأنا أتحدثها بلكنة صعيدية مصرية، وقد ساعدنى ذلك فى أن أقنع من يقف على الباب بالسماح لنا بالدخول؛ بحجة أننا جئنا من مصر خصيصياً لحضور هذا العرض، ودخلنا ووقفنا ساعة قبل العرض وساعة طوال العرض، وخلال الساعتين تحولت عيناى الى حنفية بلدنا العمومية الخربانة؛ التى يسيل منها الماء بدون توقف، ويستحيل اغلاقها.
فى الساعة الأولى كنت أبكى على مقدار جهلنا وتخلفنا وعدم قدرتنا على اكتشاف واستثمار مواطن قوتنا وثرواتنا، وألمنى أننا لم نهدر ثروتنا الثقافية فحسب، بل ضيَّعنا طاقات شبابنا وأعمارهم فى تدميرها … أم كلثوم يستحى من وجودها الاسلاميون، وأكثرهم انفتاحاً واعتدالاً يرى أنها من أدوات عبدالناصر لتخدير الشعب المصرى والعربي، والأدنى من هؤلاء ينظرون اليها نظرةً تتناسبُ مع موقعهم فى سلم البشرية … وفى المقابل نجد أساتذة الجامعات الأمريكية يحتشدون بالمئات فى قلب واشنطون العاصمة لساعتين على الأقل وقوفاً انتظاراً لمشاهدة فيلم تسجيلى عن أم كلثوم….هل عرف التاريخ أمة أكثر تعاسةً منا؟
بدأ عرض الفيلم وكان عنوانه «أم كلثوم: صوت مثل مصر Umm Kulthum: A Voice «Like Egypt، أعد هذا الفيلم أستاذة بجامعة هارفارد وبتمويل كامل من الجامعة نفسها؛ أسمها «ميكال جولدمان Michal Goldman» وقد بنى هذا الفيلم على رسالة دكتوراة أعدتها الأستاذة فى جامعة برنستون فى ذلك الوقت «فرجينيا دانيالسون Virginia Danielson» عنوانها «صوت مصر: أم كلثوم، والأغنية العربية، والحياة الاجتماعية فى مصر فى القرن العشرين The Voice of Egypt: Umm Kulthum, Arabic Song and Egyptian Society in the 20th Century» وقد نشرت هذه الرسالة جامعة شيكاغو - وقد كان الراوى فى هذا الفيلم الفنان الراحل عمر الشريف رحمه الله.
النصف الأول من الفيلم يتناول أثر الثقافة المصرية فى صناعة صوت أم كلثوم، وخصوصاً أثر القرآن الكريم ودوره فى صناعة هذا الصوت العبقري، وفى سبيل اثبات هذا عرض الفيلم أصوات مجموعات من التلاميذ فى أحد الكتاتيب يرددون وراء محفظيهم سورا متنوعة من القرآن الكريم؛ تم تسجيلها من موقع متوسط بين كل هذه المجموعات؛ فكانت كأنها أوركسترا موسيقية رائعة، ثم عرض تداخل أصوات الأذان فى حى الحسين رضى الله؛ بجمالها القديم قبل أن يغزو القبح والتلوث السمعى مأذن مساجد مصر بأصوات تنفِّر الناسَ من الأذان، ثم عرض الفيلم كذلك حلقات الذكر والمديح النبوى فى موالد آل البيت رضوان الله عليهم، كل ذلك مصحوبا بشرح يبين أثر هذا على أم كلثوم.
حينها كاد الألم يقتلني، وأصبحت أقول مع أم كلثوم… اسعفينى ياعين…وبالدمع جودى ياعين… لأننى أدركت فى هذه اللحظة أنه لو جئنا؛ لمن حضروا عرض هذا الفيلم ومن سيشاهدونه بعد ذلك؛ بمئات الخطب العصماء فلن نستطيع أن نجعلهم يقدِّروا القرآن الكريم وينظروا اليه باحترام وهم لا يؤمنون به، بنفس القدر الذى تحقق فى عقولهم وقلوبهم عند اكتشافهم أن صوت أم كلثوم صنعه القرآن الكريم ولغته، وطريقة قراءته، وكذلك الأذان والأمداح النبوية التى جاءت بها ثقافة القرآن العظيم.
نظرت الى استاذتى الدكتورة منى أبوالفضل رحمة الله عليها فوجدت حالها مثل حالي، وهى عزيزة الدمع، قوية الشخصية، عزيزة النفس، تكره أن يراها الآخرون فى موقف ضعف، ولكن الموقف كان مفاجئا، والدلالة خطيرة… لقد أهدرنا ثرواتنا الفكرية والثقافية، وعجزنا أن نقرأ ظواهرنا الاجتماعية والثقافية قراءة صحيحة، نحن أمة من البلهاء الذين تسبق ألسنتهم عقولهم، بل ان عقولهم فى ألسنتهم، نردد مع الشيخ كشك سخريته من أم كلثوم لأنها قالت… خذنى فى حنانك خذني…، ونتجاهل كل ما تعنيه أم كلثوم لأن واحداً من الجماعة ـ التى جعلت فى كرسى السلطة غايتها، ووظفت الدين وكل مقدساته من أجل تلك الغاية ـ قال انها من أدوات عبدالناصر فى تخدير الشعب.
وللأسف رغم أن الدراسات التى قامت بها جامعة هارفارد وجامعة شيكاغو فى الكتاب والفيلم الوثائقى صدرت منذ عشرين عاما، لكن لم يظهر لها أى صدى فى جامعاتنا التى تحولت الى كرنفال للأزياء، وفضاء مفتوح للتنفيس عن الرغبات المكبوتة بالنسبة لكثير من الطلاب، وفرصة للتجارة بالعلم والتسلق السياسى لكثير من الأساتذة.
للأسف تمر الذكرى 41 لوفاة سيدة الغناء العربى التى استطاعت أن تجمع العالم العربى رغم كل خلافاته السياسية، والأيديولوجية، وتآمراته ومعاركه وصراعاته، إلا أن صوتها كان ولايزال هو محور ارتكاز الوعى الجمعى العربى من المحيط الى الخليج، ومن جبال طوروس الى جبال النوبة … تمر أربعون سنة ولم نفهم بعد لماذا كانت أم كلثوم ظاهرة فنية فريدة؟…ولماذا لم تتكرر؟… رحم الله المصريين فقد رحلوا وبقيت أم كلثوم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة