< في زيارتي الأخيرة إلى مصر، وعلى حس العادة السنوية المتجاذبة مع إيقاع معرض القاهرة الدولي، كانت لي أيام وليالٍ برفقة عدد من الأصحاب الأفاضل عاشقي الكتاب ومبدعي الكلمة الباحثين عن المعرفة. هذه العادة لم تنقطع سنوات طويلة، حتى مع أزمات مصر، من أهمها ثورة 25 يناير التي عشنا بعض تفاصيلها، فرأينا بأم أعيننا لحظة التحول السياسي التي كانت تشهده مصر. فكم كانت تجربة فريدة من نوعها لنا، لا نفتأ نتذكر تداعياتها وما خلفته داخلنا من رؤى وتصورات، ونقيس وفقها تأثيراتها المستقبلية، وما استحدثته على الأصعدة المصرية كافة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ).
في كل عام، نقرأ -انطباعياً- الواقع المصري من خلال ما نراه ونسمعه ونتماسَّ معه مباشرة في تعاملاتنا اليومية، فما يقال ويتردد في أجواء شعبوية مصرية مشبعة بالحاجة المشتملة على الترقب كثير جداً، في هذا العام كان قياسنا مختلفاً بعض الشيء، فالمصري الذي كان بعد الثورة مشرئب الصدر، مرتفع الرأس، معتزاً ومفاخراً الشعوب الأخرى بثورته الخالدة على كل أدوات القمع السياسي، لا يزال ينتظر العائد الكمي والنوعي لثورته، فهو عندما يتحدث فإنه يتحدث عن ثورتين؛ ثورة يناير 2011، وثورته الفرعية بانتصار جزئي على حكومة الإخوان التي انقسم حولها الشعب المصري عام 2013؛ ليعود الحكم إلى قبضة العسكر تحت مظلة ديموقراطية لا تزال الشكوك تنتابها، وما بين مؤيد ومعارض تتحرك السياسة المصرية داخلياً وخارجياً باتجاه محفوف بالمخاوف، وهو ما أثر سلباً في الحياة العامة.
في شقة صديقنا الكريم في مدينة نصر التقينا واحداً من أهم الصحافيين المصريين السابقين في صحيفة الأهرام، وهو من الذين كانت لهم مواقفهم الإعلامية المشهودة الإيجابية من الثورة، ومواقف أخرى ساخنة سلبية من حكومة الإخوان التي مقتها وعبَّر عن كرهه لها على صفحات «الأهرام»، إذ وصفها بالسياسات التعسفية التي كادت تأخذ البلاد إلى منحدر وعر، من مؤشراتها تدهور الحرية الإعلامية التي كانت حقاً مشروعاً له خصوصيته بمقتضى القوانين المساندة لها، تحدث كيف بدا تأثير العسكر سلبياً على المقاومة الوجودية لوسائل الإعلام، وهو ما دفع بالعديد من القنوات الفضائية إلى التوقف، كما قلص نسبة توزيع الصحف اليومية الكبرى، منها صحيفة الأهرام القومية العريقة التي تراجعت نسبة توزيعها من مليون نسخة يومياً إلى 100 ألف، وهو رقم له مؤشراته العميقة. قد نقول إن السبب يعود إلى تزايد ونمو وتيرة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة، إلا أن هذا لا يعني قطعاً دحرجة الصحف العريقة والمؤثرة إلى حد الكساد.
اليوم نستشعر مخاوف الشعب المصري الذي صفق بحرارة للسيسي بعد إطاحته بمحمد مرسي وجماعته، من أن يفشل في تلبية مطالب شعبه، وهو ما يضطره إلى الخروج إلى الساحات والميادين في ثورة تصحيحية ثالثة في أقل من خمس سنوات، ولكن من رؤية فاحصة واقتراب لصيقٍ وتتبع لواقع المصريين في ظل المتغيرات الأخيرة، يمكننا القول رأياً لا حكماً، إن مصر الحضارات والتاريخ تشهد حالياً فصولاً أخرى تسحبها بقوة إلى الوراء، في الوقت الذي تتقدم فيه دول أخرى كانت قبيل سنوات تقبع في أزمات شرسة، تنهشها من كل جانب لتستيقظ وتنهض من سباتها وتمشي باتجاه المستقبل، بينما تفيق مصر بعد الثورة على واقع اقتصادي مزْرٍ لم تستطع حتى اليوم تجاوزه.
في زيارتنا إلى ابن صديق لنا في الإسكندرية، رأينا على امتداد الطريق الصحراوي كيف تحولت الصحراء إلى واحات زراعية على طول الطريق، هذا قطرة في بحر الأرياف والمناطق الزراعية التي تسقى من مياه النيل، والأراضي الأخرى المستصلحة وما يترافق معها من مشاريع عملاقة، ومع ذلك لا تكاد تلبي المتطلبات الاقتصادية الحقيقية لمصر، وارتباك الاستثمارات الأجنبية بعد الثورة بما يصل إلى أربعة بلايين دولار منذ قيامها، لتسجل أدنى مستوياتها بسبب الانفلات الأمني وعدم الاستقرار السياسي، كل هذا ترك أثره في الواقع المصري.
كان صديق رحلتي يتساءل بصياغة أخرى للسؤال القديم: أيهما يقدم على الآخر الحرية أم رغيف العيش؟ مستشهداً بقوة الصين الشعبية الصناعية الصاعدة بـ«وتيرة عالية»، التي قدمت العيش على الحرية، معتمدة في ذلك على الفلاحة كأساس لنهضتها، وهي بذلك تتشابه إلى حد كبير مع مصر في بيئتها الفلاحية، حتى أصبحت أكبر قوة زراعية في العالم.
الاختلاف يكمن في قدرتها على ضبط شعبها بما يتماشى مع طموحات الوطن المستقبلية، خصوصاً وهي تنمو بشكل مطرد وسريع في عدد سكانها، وهو ما كان يهدد بمجاعة ماحقة لولا استنفار القوة في ضبط 1.3 بليون نسمة، وصياغتها سياسياً وتعليمياً واجتماعياً في مشروع وطني حقيقي، لتحتل في أقل من 20 عاماً مكاناً متقدماً في مصاف الدول الصناعية، فمتى أرادت مصر ومعها بقية دول العالم العربي أن تقضي على الفوضى، عليها أن تتضافر في جهودها لصياغة مشروعها الوطني؛ لأجل تحقيق حياة أفضل لسكانها، وهذا له شروط قاسية، منها: إعادة صياغة مفهومنا للحرية بحيث تتجه للبناء، وأن تتخلص الأنظمة من استثماراتها الشخصية على حساب المصالح العامة، وأن تكون تحت مظلة القوانين وتتحمل وزر أعمالها مثلها مثل أي نسمة تتحرك على الأرض، وأن تكون القوة الرادعة لمخالفي النهج العام هي الوسيلة المثلى لبتر أدنى ظواهر أخلاقية سيئة قد تخل بالمشروع الوطني المصمم لأجل الارتقاء بالبلد، وأن توجه شعوبها للانغماس في العمل الحقيقي الجاد الذي سيحقق لهم معدلات معيشة ممتازة، وأن يعاد النظر في أساليب التعليم العتيقة بحيث يبرمج وفق متطلبات العمل الحقيقي، مع دعم المشاريع النوعية الخاصة والإفادة من الخبرات الأجنبية، ونحن نتخيل ما يمكن أن يحدث لو انتهجت مصر نهج الصين الشعبية في سياساتها اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً، باستثمار إمكاناتها ومواردها الطبيعية، عندها ستستعيد مكانتها اللائقة بها في العالم العربي، والعالم أجمع، عندها لن يحتاج الشعب المصري إلى ثورة مدمرة. كان هذا جزءاً من نقاش طويل دار بيننا في شقة صديقنا، ومثله لقاءات كثيرة كانت تجمعنا في منزل صديق أو مقهى.
سر مصر أن الحرية مكتسب تاريخي طبيعي، تشكل منه نسيج المجتمع المصري واصطبغت به الصالونات الثقافية، والمسارح، ودور الفن، وصالات السينما، وهو -على رغم كل هذه الأزمات- ما يجعلنا متعلقين بها. ما يزعجنا أننا نرى مصر العظيمة تنسحب إلى إرادة وتوجيه ثقافة مستوردة أقل منها، فحذت حذوها حتى تلوثت بها مناحي الحياة. إن لم تفق فستجتاحها هذه الثقافات الهامشية كالأوبئة وتقضي على ما بقي لها من خصوصية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة