هناك أنماطا من القراءة قد تفسد علينا هذه المنافع وتفقد النصوص فاعليتها ولا تتمكن من التقاط جوهرها الحي
ترك المؤلفون السابقون لنا نصوصا متنوعة فى كافة مجالات الفكر من عشرات القرون. وكثير من هذه النصوص قد تم نسيانها فى ثنايا التاريخ ولكن كثيرا منها أيضا يقاوم الزمن، نستمر فى طباعته ونعاود قراءته، وهو ما يدل على أن له جدوى.
وتدل مقاومته للزمن على أنه إما ينقل لنا معرفة أو يزودنا بحكمة أو نشعر فى قراءته بمتعة. فهذه النصوص تظل بالنسبة لنا مستودعا للمعرفة والحكمة والمتعة .
ولكن هناك أنماطا من القراءة قد تفسد علينا هذه المنافع وتفقد النصوص فاعليتها ولا تتمكن من التقاط جوهرها الحي، بل وربما تحولها أيضا إلى قيد يعكر صفو حياتنا ومصدر شقاء للكثيرين.
وأول هذه القراءات هى تقديس السابقين واعتبارهم قد أتوا بالحقيقة التى لا تقبل نقدا ولا مراجعة. ولقد رأينا كيف كانت الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا تحاكم كل من يقول برأى مخالف لأرسطو، وأضفى آباء الكنيسة عليه قداسة لم يسع هو إليها. ولحسن الحظ إنتهى ذلك ولم يعد تصريح أحد بأن أرسطو قد أخطأ يثير أية مشكلات. ورغم ذلك ظل أرسطو محتفظا بقيمته ومكانته فى تاريخ الفكر الإنسانى. ونحن فى عالمنا العربى مازلنا نعانى من مثل هذه القراءة التى تقوم على تقديس المؤلفين السابقين بل وحمايتهم من النقد بقوة القانون .
القراءة الثانية الخاطئة تربط المؤلفين بسياقهم التاريخى وتنظر إلى أفكارهم فى هذا السياق. وتبدى إعجابا بنبوغهم المبكر لأنهم صرحوا بأفكار كانت سباقة فى عصرهم. هذه القراءة تتعامل مع المفكرين السابقين على أنهم يمثلون مرحلة طفولة للبشرية ساذجة وسابقة على مرحلة النضج التى نعيشها. فنفرح بكلام السابقين وكأنه أطفال فنقول لهم: شاطر أو برافو. ومثل هذه القراءة تلتمس العذر لأخطاء القدماء وتتعامل بالرأفة مع أفكار تستحق النقد الصريح، وفى هذا استعلاء على السابقين لا مبرر له وتقليل من شأنهم.
ويدخل فى هذا الإطار أيضا هاجس البحث عن الرواد أو المبشرين القدماء بأفكار حديثة، فنقدم مفكرا بوصفه أول من نبه إلى أن العالم من حولنا مكون من ذرات وآخر كان أول من أشار إلى الجدل فى الطبيعة وثالث يعبر عن الاغتراب الوجودى وهكذا. وهذه القراءة تقوم على اعتبار أن الأفكار المعاصرة السائدة بيننا هى وحدها التى لها قيمة، ونقرأ نصوص التاريخ كلها للبحث عن آبائها الأوائل. وخطر هذه القراءة هى أننا، بسبب ذلك، قد نهتم ببعض جمل عابرة فى النص القديم ونضع فى الظل مجمل انتاج المؤلف وما يتضمنه من أفكار أخرى مهمة. وهكذا نجعل المؤلف السابق أسيرا لمستقبله .
هاجس آخر يجعل القراءة عقيمة وهو الاهتمام بقصد المؤلف. وكثيرا ما نجد الخلاف يدور بين الشراح حول أسئلة من نوع : هل كان المؤلف بالفعل يقصد ما ذهب إليه فلان؟ ويتم توجيه الطاقة كلها للبحث عن قرائن فى النص وفى نصوص المؤلف الأخرى وكذلك فى نصوص معاصريه عما يكشف لنا عن ما الذى كان يقصده المؤلف بالضبط من كلامه. وهكذا تتجه الأنظار إلى ذات المؤلف وإلى الكشف العسير عن نيته، فى حين أنه من الأجدى العكوف على بيان ما يحتويه النص من أفكار بصرف النظر عن قصد المؤلف، وهذا ما يكشف عن قوة النص وتأثيره فى الواقع .
وأخيراً هناك دائما السعى الحثيث إلى الالمام والإحاطة، فيغرق الباحث فى النصوص وفى حياة مؤلفها ويعمى عما تتضمنه من أفكار مجدية فى الواقع الذى يعيش فيه. وهذه القراءة تتعامل مع النص على أنه جثة هامدة وتكون مهمة المعلق هى تشريحه. فى حين أن هناك تعاملاً آخر مع النصوص الكبرى يجعل الحياة تدب فيها لأنها تربطها بأزمة معاصرة، أو توظفها فى غاية يسعى لها القارئ. والفيلسوف الفرنسى جيل ديلوز، وهو قارئ شهير لتراث الفلاسفة الكبار السابقين، يرى أن مذاهب المؤلفين الكبار السابقين تشبه مدافع ضخمة ثقيلة وصعبة الحركة. وتكون مهمة القراءة الفعالة صهر المدفع الضخم وتحويله إلى أسلحة صغيرة سهلة الحمل مناسبة لحرب الشوارع. وقد يكون غريبا استخدام تعبير الحرب هنا، ولكن الدلالة الكامنة هنا - ولا أقول قصد المؤلف – هى أن كل قراءة للسابقين تكون محملة بتطلعات القارئ فى تحقيق استقلاله وحريته.
بعد كل ما سبق، ربما كان من الأجدر أن يكون عنوان هذا المقال: كيف لا نقرأ السابقين ؟ نظرا لأننا لم نذكر سوى بعض القراءات السلبية التى يحسن تفاديها. ولم نتطرق إلى ماهية القراءة السليمة. فى الواقع يصعب تحديد مواصفات قياسية للقراءة المناسبة، ولو فعلنا ذلك لقضينا على حرية القارئ ولم نترك مجالاً للكشف والدهشة. ورغم ذلك يمكن أن نحدد بعض المنطلقات التى قد تساعدنا على قراءة جيدة. أولها أن أخذ كلام السابقين مأخذ الجد، وننقد ما يستحق النقد فيه، وفى هذا أكبر تكريم لهم؛ ثانيا الإنطلاق من هموم معاصرة حتى يكون للقراءة جدوى، وأخيراً أن تكون غايتنا هى مزيد من الحرية .
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة