تصبح النكتة جريمة أمن دولة، والورقة تحض على كراهية النظام، والبالونة المنفوخة أيا كان أصلها وفصلها تسعى لتحطيم معنويات الجنود
اشتدت المنافسة فى النصف الثانى من خمسينات القرن الفائت بين فرقتين جامعتين كانتا تقدمان الاسكتشات الفكاهية: «الدراويش» التى ألفها طلاب من كلية الزراعة جامعة الإسكندرية، و«شباب الورد» من كلية تجارة عين شمس. اشتهرتا بأداء التواشيح التراثية بكلمات كوميدية وتقليد المشايخ وتغيير كلمات الأغنيات المعروفة بأخرى لا علاقة لها بأصل الموضوع. خفة روح الفرقتين جعلت السينما تتلقفهما، ليظهر أفرادهما فى اسكتشات داخل بعض أفلام الأبيض والأسود، فنرى مثلا فرقة «الدراويش» فى فيلم لواحظ تغنى: « اليوم بلغت العشرين وأتى أبوك ليدعينا، يا شيخ محمد ما رأيك فى الحفلة؟، فيرد الشيخ محمد: الحفلة من غير الأكل كالساعة من غير المينا» أو يظهر أعضاء «شباب الورد» فى فيلم حماتى ملاك خلال رحلة بحث الحانوتى إسماعيل ياسين عن الجثة التائهة، ليؤدوا إسكتش «حى حى أخينا ميت ما هو حى».
***
قد يمزج المشاهد اليوم بين الفرقتين، بل تنسب بعض أعمالهما لفرقة كوميدية أخرى استمرت ونجحت طويلا وهى «ساعة لقلبك»، خاصة وأن بعضا من هؤلاء الطلاب انضموا إلى هذه الأخيرة مثل لطفى عبدالحميد، خفيف الدم ثقيل الوزن، الذى اشتهر باسم «فتلة». لا نعرف الكثير عن هذه الفرق، فقط نذكر أن المخرج الجاد فتوح نشاطى كان مشرفا على النشاط المسرحى فى تجارة عين شمس، وبالتالى ساعد على انتشار «شباب الورد» التى تقبل الناس سخريتها بصدر رحب. لم يغضب أحد مثلا حين غيرت الفرقة كلمات أغنية أم كلثوم عام 1957 «محلاك يا مصرى وأنت على الدفة والنصرة عاملة فى الكنال زفة، التى كتبها صلاح جاهين بمناسبة انسحاب المرشدين الأجانب من إدارة قناة السويس بعد تأميمها، لتصبح الكلمات «محلاك يا طرشى وأنت على الفتة، الوز سبلى فى العرق مرقة، يا شيوخ بلدنا تعالوا على الكنبة». كما لم ينتفض الأزهر لأن الفرقة صورت المشايخ بشكل فكاهى فى مشهد متخيل وهم يلعبون كرة القدم فيقول أحدهم «الكرة اسكروا!!» ويرد الآخرون «لا إله إلا الله».
ولم تقم الدنيا لأن هؤلاء الشباب حولوا عملا تراثيا، صوفيا، مثل «الله الله يا بدوى جاب اليسرى» إلى اسكتش كوميدى، ولم يتهمهم أحد بازدراء الأديان أو بالإساءة إلى رجال الدين ولا غيرهم أو بالتندر على حدث قومى كتأميم القناة. كانت هناك مساحة للسخرية ولسعة العقل والصدر، ومعنى ذلك أننا كنا شعبا أقوى مما نحن عليه الآن، فالشعوب الضعيفة هى التى تتوهم دائما أن قوميتها أو عقيدتها ستذهب عنها بلفظ أو بكلمة أو برداء، لذا تنفعل بشدة وترتعد لمجرد المظاهر والألفاظ والفكاهة، بعكس الشعوب الحرة القوية. كما أن الدول التى تنتشر بها تهمة ازدراء الأديان عادة ما يستخدم بها المتطرفون ترسانة القوانين الموجودة لديها لمنع إصلاح الخطاب الدينى أو التعليم، وعندما يصمت المثقفون والمجتمع المدنى أو لا يتخذوا موقفا حاسما يكون المجال أوسع أمام فريق التطرف الذى يتشجع على توجيه التهم.
***
تصبح النكتة جريمة أمن دولة، والورقة تحض على كراهية النظام، والبالونة المنفوخة أيا كان أصلها وفصلها تسعى لتحطيم معنويات الجنود، لأن اهتزاز الأوضاع لم يترك مجالا لسعة الصدر ولا لاحترام رأى وموقف الآخر، ولا لرغبة فى فهم سخرية الثائر الذى لا يقبل الأمر الواقع، وعندما لا ينجح فى تغييره فهو يسخر منه ويحوله إلى نكتة. لذا كلما تعجز ثورة عن تحقيق أهدافها كلما تقدمت النكتة، تعبيرا عن الإحباط والقهر والهزيمة، وكلما حرم الناس من التعبير عن مشاعرهم أفرغوا الكبت بالتنكيت. هذا وضع طبيعى عرفناه فى مراحل مختلفة من تاريخنا، على سبيل المثال بعد فشل الثورة العرابية ظهرت فى مصر مقاهى الضحك أو المضحكخانة كتلك التى اتخذها لنفسه الشيخ حسن الآلاتى فى حى السيدة زينب. كان يشترط لدخول ناديه وضع رسالة فى التنكيت والقفش، حتى إذا حازت عنده قبولا ضم مقدمها إلى أعضاء النادى، حيث يجتمع الناس للتعليق بنكاتهم على الأحداث الجارية. وهو بالضبط ما يفعله البعض حاليا على صفحات الفيسبوك وغيره من الوسائط الاجتماعية، فلا شريط فيديو أو تعليق ساخر أو رسم ممكن أن يخرب بلد أو يلحق الهزيمة بشعب وينال من رموزه أو يقلل من شأن دين.. لنتمتع بشىء من الثقة فى النفس وقليل من حكمة الضحك.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة