تستعيد بعض الأوساط في الساحة الفلسطينية نقاشات احتدمت في مراحل سابقة، حول الأهداف الآنية والإستراتيجية للعمل الفلسطيني
تستعيد بعض الأوساط في الساحة الفلسطينية نقاشات احتدمت في مراحل سابقة، حول الأهداف الآنية والإستراتيجية للعمل الفلسطيني، خصوصاً بعد عام 1968 عندما طرحت حركة «فتح» مشروعها لبناء دولة ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني، وتزاحمت النقاشات بعد حرب أكتوبر 1973 عندما بدأ الحديث يتواتر عن إمكانية تحقيق تسوية في المنطقة انطلاقاً من القرار 242، وبناء دولة فلسطينية فوق الأرض المحتلة عام 1967. ولكن التحول الثاني في الرؤية والنقاشات بدأ بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في أواخر العام 1987، فتصاعد الجدل الداخلي الفلسطيني الذي تغذى مع انطلاق الحركة الإسلامية في فلسطين واندماجها في العمل المباشر ضد الاحتلال.
وبدا من ذلك الحين أن ثلاثة نماذج تسووية شكلت ما يمكن أن نسميه (برنامجاً) للحل الفلسطيني، وإن بدت هذه النماذج مختلفة في الكثير من التفاصيل إلا أنها تتقاطع مع بعضها عبر الرؤية البعيدة التي تنادي بكامل فلسطين وطناً للشعب الفلسطيني. هذه النماذج هي: حل الدولة الديموقراطية العلمانية الموحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية، وحل الدولة الواحدة، وحل الدولتين.
أما مشروع الدولة الديموقراطية العلمانية الموحدة، فكان قد طرح من قبل بعض القوى اليسارية عام 1969، وهو يشكل في جذره الأساسي برنامج الجناح التجديدي من الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) الذي بات منذ النصف الثاني من ستينات القرن الماضي بغالبية عربية بعد أن خرج منه الجناح الصهيوني. لكن التطورات التي اعقبت أكتوبر 1973 دفعت هذا الحزب وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية الى بناء رؤية جديدة وإعادة إنتاجها عبر تبني مفهوم المرحلية في النضال الفلسطيني، وتحديد اهداف النضال الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة فوق الأرض المحتلة عام 1967، والذي ما لبث أن أصبح برنامجاً رسمياً تبنته منظمة التحرير الفلسطينية في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في القاهرة في أيار (مايو) 1974. لكن الخلاف بين رؤية «راكاح» وبقية الفصائل أن الحزب بات يتحدث عن حل الدولة الفلسطينية فوق الأرض المحتلة عام 1967 كهدف نهائي مسقطاً قضية حق العودة، وهو أمر انعكس على حضور الحزب داخل الوسط العربي في فلسطين المحتلة عام 1948، حيث وقعت تطورات إضافية دفعت باتجاه صعود الصوت العربي وانطلاقة الأحزاب العربية الصافية، بما في ذلك الحركة الإسلامية داخل مناطق 1948.
في هذا السياق بدأ يتبلور مفهوم حل الدولتين منذ أواخر العام 1988، وتحديداً بعد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني التي عقدت في الجزائر وكانت الانتفاضة الفلسطينية في أوج تصاعدها، فتم طرح هذا المشروع استناداً الى قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهو أمر تحفظت عليه غالبية فصائل منظمة التحرير، ولم تصوت إلى جانبه سوى حركة «فتح» ومعها جماعة حواتمة والحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب الفلسطيني حالياً)، بينما اتخذت كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير الفلسطينية، وجبهة التحرير العربية موقفاً رافضاً للمشروع.
ينطلق المتحفظون على هذا الحل من قوى التيار القومي واليساري وحتى من بعض الجهات داخل حركة «فتح» من واقع أنه يعني في شكل أو آخر التنازل عن أكثر من 80 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، وشطب حق العودة الذي يمثل جوهر قضية فلسطين. وأن حل «دولتين لشعبين» يعني التفاوض على نسبة الأراضي التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية.
وكما هو ملاحظ بالنسبة الى حل الدولتين، فإنه يكاد يبدو مستحيلاً بالشروط الأميركية والإسرائيلية، إذ لا تريد أي منهما إعطاء الفلسطينيين القدس، ولا الرجوع الى حدود عام 1967 ولا تفكيك المستوطنات، بل هي تريد دولة اسمية للشعب الفلسطيني بدل الحقوق، وليس دولة بحقوق (أكثر من حكم ذاتي بقليل وأقل من دولة بكثير) مع شطب حق العودة الذي يشكل لبّ القضية الفلسطينية.
اما بالنسبة الى حل الدولة الواحدة التي يحلو لبعضهم تسميتها «الدولة الثنائية القومية» فقد بدأ الحديث عنها في السنوات الاخيرة من قبل بعض المثقفين الفلسطينيين واليهود داخل المناطق المحتلة عام 1948، ومن بعض المثقفين الفلسطينيين في الشتات، منطلقين من أن الغالبية الساحقة من سكان الدولة العبرية من اليهود باتوا من مواليد فلسطين وبالتالي لم يعد أمامهم موطن سوى مكانهم الراهن، الذي يفرض عليهم وعلى الفلسطينيين البحث عن حل عادل يتمثل بدولة موحدة لشعبين. وفي ذروة العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، وتحديداً يوم 13 كانون الثاني (يناير) 2009 أعلن تجمع للمثقفين يضم فلسطينيين مقره مدينة بوسطن عن نية عقد «مؤتمر دولي» لبحث مدى واقعية حل الدولتين والمطالبة بدولة واحدة وفق قاعدة «مواطنة متساوية للفلسطينيين والإسرائيليين»، ودعي محاضرون جامعيون في الولايات المتحدة وغيرها للإسهام في النقاش بأوراق بحثية تتخذ الطابع الأكاديمي، منهم عرب ويهود وإسرائيليون والتأم المؤتمر يومي 29 و 30 آذار (مارس) 2009. تجدر الإشارة إلى أن عدداً لا بأس به من المساهمين بأوراق أكاديمية في مؤتمر بوسطن تمت دعوتهم إلى المشاركة في ندوة يرعاها «معهد كارنيغي للسلام» بواشنطن بعد يومين من انفضاض مؤتمر بوسطن، لبحث آفاق «الدولة الواحدة». وبالنسبة الى معارضي فكرة الدولة الواحدة فهم ينطلقون من قناعتهم بأن طرح هذا المشروع يجلب خسارة للنضال الفلسطيني بعد أن أصبح مطلب الدولة المستقلة فوق أراضي العام 1967 موضع إجماع دولي، وأن المجتمع الإسرائيلي غير جاهز أصلاً لهكذا حل. بينما تنطلق «حماس» و»الجهاد الإسلامي» في رفضهما المشروع من موقع رفضهما المساس بإسلامية الأرض الفلسطينية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة