عندما سألت السفير الروسي لدي الأمم المتحدة: هل أنتم مستعدون لوقف الهجمات الجوية في سوريا، ومتي، وتحت أي شروط ، لم يقدم إجابة صريحة.
عندما سألت السفير الروسي لدي الأمم المتحدة فيتالي تشوركين: هل أنتم مستعدون لوقف الهجمات الجوية في سوريا، ومتي، وتحت أي شروط ، لم يقدم إجابة صريحة. قال كلاما كثيرا عن أن تلك الهجمات تحظي بالشرعية لأنها تتم بناء علي طلب الحكومة السورية بعكس هجمات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة كما لو كان يريد القول إنها غير شرعية. لكنه أضاف أيضا أن الهجمات الروسية ليست إلا جزءا من العمليات العسكرية التي تشمل قوي عديدة للمعارضة (إرهابية ومعتدلة) والحكومة السورية، وبالتالي ليس متوقعا أن تتوقف تلك الهجمات بينما يستمر الآخرون في إطلاق النار. لكن كيف يمكن للآخرين أن يوقفوا هجماتهم إذا أخذنا في الاعتبار أن من بينهم جماعات مثل داعش وجبهة النصرة التي يتفق أغلب الأطراف علي ضرورة عزلها وتدميرها باعتبارها منظمات إرهابية وبالتالي ليس من الطبيعي أن يتم وقف إطلاق النار ضدها وليس منتظرا منها أيضا أن تعلن فجأة تحولها إلي قوة سياسية مؤمنة بالديمقراطية وتقبل بالعملية السياسية التي يدعو لها قرار مجلس الأمن الأخير ، فهذه الجماعات هي الهدف الأساسي للقرار باعتبارها التهديد المشترك للجميع، وماتم التوافق عليه بين القوي الدولية الكبري ماكان ليتم بدون الشعور بضرورة العمل معا لمواجهة هذا التهديد.
لكن صحة مايقوله تشوركين في هذه الجزئية لاتنفي المسئولية عن موسكو. وما لم يقله أيضا هو أن داعش لم تكن هدفا لأغلب الهجمات الجوية الروسية، وعندما سئل عن ذلك أحال الناس لمتابعة ماتقوله وزارة الدفاع الروسية عن طبيعة عملياتها.
الموقف الروسي هنا لايمكن أن يختلف عن موقف أي قوة عظمي أو صغري، فالقضية ليست حقوق إنسان أو معاناة لاجئين أو ازدياد عدد القتلي من الأبرياء، هي ببساطة مصالح هامة لروسيا في سوريا وفي المنطقة عموما، وقد جاءت الأزمة السورية لتفتح الباب أمام استعادة دور الدب الروسي في المنطقة الذي تراجع كثيرا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، وهو الانهيار الذي يشعر فلاديمير بوتين بمرارته ويعتبره أسوأ تطور تراجيدي في القرن الماضي، وهو بذلك ربما يسعي لتصحيح هذا الخطأ من خلال تحركات جيواستراتيجية تتسم بالجرأة خاصة في مواجهة تردد أمريكي واضح بما يخلق فراغا يسعي الجانب الروسي الآن لشغله. من هنا لايمكن فصل التدخل الروسي في سوريا عن التدخل في أوكرانيا واحتلال قرميا ، أو سلوك الكريملين مع دول الاتحاد السوفييتي سابقا الذي يقترب من لغة الإملاءات.
ومن هنا فالجانب الروسي يسعي لفرض لغة الأمر الواقع. فعندما تحدث تشوركين عن وقف إطلاق النار كان يمكن أن يبدي الاستعداد له إذا التزمت به الأطراف الأخري، لكنه لم يقل ذلك، بل أوضح أن المفاوضات والعملية السياسية يجب أن تسبق وقف إطلاق النار وليس العكس.
ترجمة ذلك بعيدا عن لغة الدبلوماسية تعني أن موسكو لاتريد إنهاء هجماتها الجوية ومعها هجوم الجيش السوري حاليا طالما يتم تحقيق تقدم علي الأرض وهو مايحدث الآن بشكل متسارع. فالجميع يدرك أن خريطة وجود القوات هي التي ستفرض نفسها علي المتفاوضين في جنيف، خاصة لو صاحبها خلل واضح في توازن القوي. وقد بدا مؤخراً أن القوات النظامية السورية مدعومة بهجمات جوية روسية ومساعدات إيرانية ومن حزب الله بدأت تستعيد زمام المبادرة الذي فقدته خلال العامين الماضيين. والهدف الواضح حاليا هو استكمال فرض الحصار علي حلب في الشمال، حيث تستهدف الهجمات الجوية الروسية الحدود الخارجية للمدينة وقطع خطوط الإمداد للمعارضة خاصة القادمة من تركيا. وقد تم بالفعل قطع أحد الخطين الرئيسيين شمال غرب المدينة والهجمات مستمرة لقطع الخط الثاني. الأمل الروسي هو أن يؤدي ذلك إلي قبول السعودية وتركيا بشكل التسوية كما تريده روسيا والنظام السوري.
ولكن سوريا لاتنطبق عليها كل قواعد الصراع التقليدية. فعادة يؤدي اختلال توازن القوي إلي تسوية سياسية بعد إدراك أحد الطرفين عدم إمكانية تحقيق أهدافه بوسائل عسكرية، لكن في الحالة السورية يمكن أن يكرس التقسيم الطائفي لسوريا بفرض الحكم العلوي لمنطقة الساحل الغربي، وترك المناطق الشرقية للقوي السنية والشمالية الشرقية للأكراد. هذا في ذاته يمثل روشتة لاستمرار الصراع المدمر في سوريا إلي مالانهاية مع استمرار تدفق القوي الجهادية لسوريا، وقد يدفع دولا أخري في المنطقة للمزيد من التدخل المباشر لدعم الأطراف التي تمثلها أو تتفق مصالحها معها. من هنا فإن روسيا يمكنها أن تساعد نظام الأسد علي تحقيق مكاسب علي الأرض مؤقتا لو استمر القتال علي المدي القصير، لكن ذلك يمكن أن يدمر العملية السياسية برمتها في إطار قرار مجلس الأمن الأخير ٢٢٥٤. لكن الكريملين لايبدو مستعدا الآن للقبول بهذا المنطق، في إطار سياسة الاندفاع والمقامرة أحيانا التي يميل إليها بوتين، وبالتالي فإن مكالمات وزير الخارجية جون كيري لنظيره الروسي سيرجي لافروف ربما لاتأتي بالنتيجة المطلوبة. فالجانب الأمريكي لايزال يعتقد أن تحقيق تقدم في الملف السوري، مثل غيره من ملفات المنطقة، تكفي فيه المواعظ عن تشكيل حكومات شاملة وأن تراعي مصالح كل الأطراف. لكن الأمريكان أيضا ليسوا في وضع يسمح لهم بالتدخل الحاسم لصالح قوي المعارضة بعد أن طغي عليها الطابع الجهادي، لذلك فإن الدعوة لدور أمريكي أكبر لن تجد الصدي في واشنطن بحجة التصدي للنفوذ الروسي أو للدور الإيراني، فكلاهما يمكن التعامل معه بمنطق الدول والمصالح ، وأمريكا التي تمكنت من إجهاد الاتحاد السوفييتي تمهيدا للإجهاز عليه، لن يُعجزها التعامل مع روسيا ، أو إيران. لكن ما لايمكنها التعامل معه أو القبول به هو أي كيان جهادي يجد موطئ قدم في تلك المنطقة الحساسة. فأمريكا لم تطرد " القاعدة " من أفغانستان لتقبل بقوة أكثر شراسة في سوريا الأكثر أهمية. ويمكن للسياسيين أو الكتاب في المنطقة التعبير عن خيبة أملهم في سياسات أمريكا كما يشاءون، لكن علينا أن نواجه الواقع كما هو. فرغبة دول المنطقة في دفع واشنطن لدور أكبر لن تجدي الصدي المطلوب مالم يواكبها تعاون حقيقي في تحجيم وهزيمة تلك القوي الجهادية، وإلا فإنها قد تجد نفسها في مواجهة تفاهم أمريكي ـ روسي ـ إيراني يخطط ويفرض الحدود الجديدة للمنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة