نقلت وسائل الإعلام أن اتفاقا وشيكا سوف ينعقد بين الحكومة المصرية والبنك الدولى، تحصل مصر بموجبه على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار
فى شهر أكتوبر الماضى، نقلت وسائل الإعلام أن اتفاقا وشيكا سوف ينعقد بين الحكومة المصرية والبنك الدولى، تحصل مصر بموجبه على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار، على ثلاث سنوات، ويستخدم فى تمويل برامج التنمية الاقتصادية. وقد جاء ذلك ضمن جهود الدكتورة سحر نصر، وزيرة التعاون الدولى، فى العمل على سد الفجوة التمويلية الكبيرة الناجمة عن استمرار انخفاض معدلات الاستثمار المحلى والأجنبى، والانهيار الحاد فى عوائد السياحة، والتراجع الحتمى للمعونات الخليجية. وقد تُوجت هذه الجهود، بتوقيع اتفاق الشريحة الأولى من القرض، والبالغة مليار دولار يوم ١٩ ديسمبر ٢٠١٥، ثم بالإعلان يوم ١ يناير ٢٠١٦ أن هذه الشريحة الأولى قد تم سدادها، وهو ما أنكره محافظ البنك بعد ذلك بثلاثة أيام، مما دعا الوزيرة للتأكيد على أن التأخير فى الصرف يتعلق ببطء الإجراءات التنفيذية، وأن الأموال لن تتأخر فى الوصول.
أما عن مضمون الاتفاق، فقد نشر البنك الدولى على موقعه الرسمى ــ بتاريخ ٢١ ديسمبر ٢٠١٥ ــ المذكرة التفصيلية للقرض (المؤرخة فى ٢٣ نوفمبر والواقعة فى ثمانين صفحة وهى ليست العقد القانونى) وملخصها التنفيذى، والذى يُفهم منه أن الاتفاق يرتبط بالتزام الحكومة المصرية بثلاثة برامج محددة: الأول يتناول تخفيض عجز الموازنة، ويشمل زيادة الحصيلة الضريبية، وتخفيض الزيادة السنوية فى نسبة أجور العاملين بالدولة إلى الدخل القومى، وتحسين إدارة الدين العام الداخلى. والبرنامج الثانى يتعلق بتوسيع نطاق مشاركة القطاع الخاص فى مجال الطاقة. أما البرنامج الثالث فيهدف إلى تحسين مناخ الاستثمار من خلال قوانين جديدة، وتسهيل استخراج التراخيص، وزيادة المنافسة. والواقع أن من يطالع مضمون هذه البرامج الثلاثة لا يجد فيها ما هو خارج عن السياق العام للسياسات الاقتصادية المصرية المتبعة خلال العامين الماضيين، بما يدل على أن البنك الدولى قد ربط التمويل الذى يقدمه لمصر بالبرنامج الاقتصادى الذى تعمل الحكومة على تطبيقه بالفعل، ودون فرض شروط خارجية أو غير مألوفة.
لذلك فإن الحديث عن «روشتة» البنك الدولى، وعن شروط مجحفة يجرى فرضها ليس سليما، لأن الإجراءات الاقتصادية المذكورة فى الوثيقة المنشورة من البنك الدولى تتفق مع ما كانت الدولة قد أعلنت عنه من قبل، وفى بيان وزارة المالية الصادر أول يوليو الماضى، وما تقوم بتنفيذه بالفعل منذ عامين. وهذا لا يعنى أن البرنامج سليم بالضرورة، أو أنه يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية اللذين ينشدهما الشعب المصرى. وقد انتقدت شخصيا بعض جوانبه فى مناسبات سابقة، خاصة ما يتعلق بالمشروعات القومية العملاقة، وأولويات الإنفاق الاجتماعى، وعدم ملاءمة سياسات وقانون الاستثمار. ولكن من المفيد أن ندرك أن الاتفاق مع البنك الدولى يعبر عن برنامج الحكومة المصرية واختياراتها، وأن علينا أن ننشغل بفهم ومناقشة هذا البرنامج والاشتباك معه إيجابيا فى حد ذاته، وليس من منطلق أنه مفروض علينا من واشنطن، حيث مقر صندوق النقد والبنك الدوليين.
وقد كان من الممكن لهذا أن يحدث بالفعل، أى أن تتم مناقشة الاتفاق مع البنك الدولى وغيره من المؤسسات المالية بناء على مضمونه، ودون الانجراف إلى نظرية المؤامرة، لولا أن الحكومة ترددت وتأخرت فى الإعلان عن تفاصيل كثيرة ومهمة، ولم تعرض الموضوع بالشفافية الكافية، مما فتح باب الشك والتوجس. وفى تقديرى أن الرأى العام ينتظر إجابات واضحة على الأسئلة التالية:
١) لماذا لم يتم الإعلان بالوضوح الكافى عن بنود ومضمون الاتفاق مع البنك الدولى من جانب الحكومة المصرية، بدلا من أن يكون مصدر المعلومات الوحيد والشامل هو الوثيقة المنشورة باللغة الإنجليزية على موقع البنك يوم ٢١ ديسمبر الماضى؟
٢) لماذا تم تقديم قانون الخدمة المدنية للموظفين وللرأى العام باعتباره لن يؤثر على حقوق العاملين، بينما تشير وثيقة البنك الدولى إلى التزام الحكومة بتخفيض نسبة الأجور الحكومية إلى الدخل القومى من ٨،٢٪ هذا العام إلى ٧،٥٪ خلال ثلاثة أعوام، علما بأن الناس تدرك صعوبة الوضع الاقتصادى وما يمثله بند الأجور الحكومية من عبء على الموازنة، وكان الأجدر أن تكون هناك مكاشفة تامة حول اتجاه الحكومة لتخفيض هذا البند تدريجيا، بدلا من مجرد الدفع بالقانون قبل انتخاب البرلمان بأشهر قليلة.
٣) هل يتضمن اتفاق البنك الدولى أو غيره من القروض والمنح المبرمة مع مؤسسات دولية أخرى التزاما بتطبيق ضريبة القيمة المضافة، أم أن الموضوع لا يزال محل بحث؟ وثيقة البنك الدولى تتضمن فى متنها أن فرض هذه الضريبة أحد شروط نفاذ الشريحة الثانية من القرض، بينما لا يشير الملخص التنفيذى لذلك بل يكتفى بالنص على زيادة متحصلات ضريبة الدخل على الشركات، وكذلك ضريبة المبيعات على السلع والخدمات من ٥،٤٪ من الدخل القومى هذا العام إلى ٦،٧٪ خلال ثلاثة أعوام. أما صورة عقد القرض التى جرى تسريبها فى الإعلام الأسبوع الماضى ولم تؤكد الحكومة أو تنكر صحتها، فتتضمن بندا واضحا عن ضرورة تطبيق هذه الضريبة. أين الحقيقة إذن؟ هل هناك بالفعل اتفاق أو التزام بفرض الضريبة؟ وفى هذه الحالة، ما توقيتها، وسعرها، ونطاق تطبيقها؟ وما العوائد المتوقعة منها؟ وما أثرها على الأسعار والنمو والنشاط الاقتصادى؟
٤) أين أموال القرض؟ ولماذا لم تصل بعد إلى البنك المركزى برغم أن الشريحة الأولى من اتفاق مماثل مع بنك التنمية الأفريقى تم إبرامه فى ذات الوقت (بمليار ونصف مليار دولار على ثلاث سنوات) تم سدادها بالفعل فى شهر ديسمبر الماضى؟ هل السبب هو تأخر الإجراءات التنفيذية؟ أم رفض قانون الخدمة المدنية؟ أم انتظار صدور ضريبة القيمة المضافة؟ أم ضرورة موافقة البرلمان على الاتفاق المبرم مع البنك الدولى قبل بدء الصرف؟
٥) وأخيرا، فهل هناك أى صحة لما نشرته بعض الصحف بأن الحكومة تفكر فى عدم عرض الاتفاقات التى تبرمها مع المؤسسات المالية الدولية على مجلس النواب لكى لا تتعرض للرفض أو التعديل على نحو ما حدث لقانون الخدمة المدنية؟ شخصيا لا أصدق هذا الخبر، ولا أتصور أن تذهب الحكومة إلى مثل هذه المخالفة الصارخة للدستور، ولكن يظل النفى الواضح مطلوبا.
هذه أسئلة مشروعة وواضحة، وليس الغرض منها مجرد «مناكفة» الحكومة، أو وضع العراقيل أمامها، فالوضع الاقتصادى أخطر من أن يكون محلا للمزايدة، بل هى أسئلة تشغل بال المستثمرين وأصحاب الأعمال الصغيرة والمهنيين والموظفين وكافة المواطنين، ولهذا فهى تحتاج لإجابات واضحة، لأن الغموض أكثر ضررا وأسوأ عاقبة من أى مصارحة بمضمون البرنامج الاقتصادى للحكومة مهما كانت مكلفة أو خلافية.
قديما قالوا إن الناس أعداء ما جهلوا. ولذلك فكلما تأخرت هذه المصارحة كلما كان طبيعيا أن يتجه التفكير إلى أسوأ الاحتمالات.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة