كل عناصر الغموض والإثارة، ممزوجة بمشاعر الحزن والألم، يمكنك أن تجدها متجاورة فى حادث مقتل الباحث الإيطالى الشاب جوليو ريجينى
كل عناصر الغموض والتشويق والإثارة، ممزوجة بمشاعر الحزن والغضب والألم، يمكنك أن تجدها متجاورة فى حادث مقتل الباحث الإيطالى الشاب جوليو ريجينى.
فالضحية مواطن أجنبى تربطنا ببلاده روابط تاريخية وطيدة، وعلاقات اقتصادية واعدة، له ميول يسارية تبدو واضحة فى تعاطفه الكبير مع الطبقة العاملة المصرية، ويحضر رسالة دكتوراه عن النقابات المستقلة، وينتقد بضراوة الأوضاع الراهنة فى مصر، منددا بما يسميه بأجواء القمع السياسى، وتعاظم دور الشرطة والجيش على حساب الحريات العامة، ثم تنتهى حياته بطريقة مفجعة، بالعثور على جثته فى حفرة بمنطقة صحراوية بمنطقة أكتوبر، بنصف ملابسه، وعلى جسده آثار تعذيب وحشية!
آثار الضرب العنيف المصحوب بالحرق بالسجائر على الجثة، تؤكد أن جوليو تعرض لحفلة تعذيب بشعة قبل أن يلقى حتفه، يذهب البعض ــ ومنهم كتاب بصحف إيطالية ــ بأن وقائع هذا الحفل جرت فى أحد مقار الشرطة السرية فى مصر، استنادا إلى تاريخها الطويل فى انتهاك حقوق الإنسان، وخرق القانون، وإلى وقائع قتل كان ضحاياها من المعارضين السياسيين والمتهمين الجنائيين، وهى اتهامات لا يصحبها أى دليل حتى الآن، ولا تعدو أن تكون مجرد تكهنات، خاصة وأن انتقادات جوليو للحكم فى مصر يتناولها الكثير من السياسيين والباحثين والصحفيين وكتاب الرأى فى مصر، دون أن يتعرضوا لأى أذى أو تهديد حقيقى.
وفى المقابل، يرى آخرون أن جوليو تعرض للقتل خلال حفلة تعذيب ماجنة، فى إشارة إلى احتمال أن يكون لديه ميول مثلية، وأن قاتله رجل شاذ سادى الشخصية، يتلذذ بتعذيب ضحيته بهذا الشكل الوحشى، خاصة وأن مجتمع المثليين فى مصر يشهد العديد من حوادث العنف التى ربما لا تنهى بمثل هذه النهاية الدامية، لكنها موجودة، وربما نقرأ إشارات لها فى صفحات الحوادث فى كل صحف العالم .
ومع ذلك، فسواء قتل جوليو لأسباب سياسية أو لأسباب جنائية، فسوف تدفع أجهزة الأمن المصرية ثمنا باهظا، سينال من سمعتها ومهنيتها، إن لم تنجح فى كشف غموض الجريمة، وسوف تنعكس ظلال هذا الفشل على الدولة المصرية بحالها، والتى تسعى بجدية لتحسين صورتها أمام العالم، لتنشيط السياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية، فى مواجهة دعايات الإخوان وأنصارهم بوجود حالة من عدم الاستقرار فى مصر، وسيطرة العقلية الأمنية والحلول البوليسية الرديئة على جوانب الحياة فيها !
النهاية المفتوحة التى تراهن على قيد الحادث ضد مجهول، هو أسوأ سيناريو يمكن تصوره لمقتل جوليو، سيجعلنا نبدو وكأننا إحدى جمهوريات الموز، حيث لا قانون ولا عدالة ولا مؤسسات، مجرد إقطاعية تعيش بأساطير القرون الوسطى، حيث لا قيمة لكرامة الإنسان ولا ثمن لحياته.
السعى الجاد والمخلص والنزيه لحل شفرة مقتل جوليو، هو بوابتنا الوحيدة للتأكيد على تمسكنا بدولة القانون، وهو أمر ينبغى أن تصاحبه بمنتهى الجدية سياسات جديدة لا تستند إلى الموازنات الدقيقة بين الأمن والحريات، كما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال لقائه بالوفد البرلمانى الأوروبى مساء أمس الأول، لأن تضييق مساحات الحرية ليس له إلا نتيجة منطقية واحدة وهى زيادة الاحتقان والغضب العام.
الحرية وحدها يمكن أن تساهم فى كشف غموض مقتل جوليو، وربما يكون غيابها هو سبب قتله، لكنها وفى كل الأحوال سلاحنا الفعال الوحيد ضد الإرهاب، وليس عصا الأمن الغليظة، وهى أيضا طريقنا الحقيقى المتاح لجعل حياتنا أقل عنفا وقبحا!
-*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة