حكايتنا اليوم عن واحد من هؤلاء الشبان الذين جاءوا إلى بلادنا وسجلوا ملامح الحياة فيها، وتركوا لنا ميراثًا ثريًا يعد مرجعًا للباحثين
شهدت بلاد المشرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر موجة من الرحلات الاستكشافية التي قام بها عدد من الرحالة والمغامرين الأوروبيين من بلاد أوروبية مختلفة جابوا فيها منطقتنا العربية، وارتبطت هذه الموجة من الرحلات بظاهرة الولع بالشرق في أوروبا وبالميل نحو الاستكشاف والمغامرة، لكنها في الوقت ذاته كانت تشكل جزءًا من الأعمال التمهيدية للتوسع الاستعماري في المنطقة، واليوم وبعد مرور عشرات السنين على هذه الرحلات، وبعد أن ابتعدنا عن دوافع هذه الرحلات؛ فإن ما تبقى لنا منها ما تركه هؤلاء المغامرون من نصوص ورسوم سجلوا فيها رحلاتهم.
حكايتنا اليوم عن واحد من هؤلاء الشبان الذين جاءوا إلى بلادنا وسجلوا ملامح الحياة فيها بالقلم والريشة، وتركوا لنا ميراثًا ثريًا يعد مرجعًا للباحثين في تاريخ المشرق العربي في مطلع القرن التاسع عشر.
عرفه أجدادُنا في مصر وبلاد الشرق في الفترة ما بين عامي 1809 و1817باسم الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللوزاني، عاش بينهم وتجول بين ربوع سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، استقر في مصر ومنها انطلق إلى الجنوب ووصل إلى النوبة وشمال وشرق السودان، وزار بلاد الحجاز ثم عاد إلى مصر وتوفي بها قبل أن يكمل عامه الثالث والثلاثين.
إنه يوهان لودفيج بوركهارت، والمعروف كذلك باسم جون لويس بوركهارت، الشاب السويسري الذي ولد في مدينة لوزان في 25 نوفمبر من عام 1784، وأمضى طفولته في مدينة بازل في منزل أسرته الذي تحول الآن إلى متحف، وقد تلقى الصبي الصغير تعليمه الأوّلي مع أخواته على أيدي مدرسين خصوصيين بمنزل أسرته ببازل، وفي سن السادسة عشرة سافر ليدرس القانون والفلسفة والتاريخ في مدينتي لايبزيج وجوتيجن بألمانيا حاليًا، وقضى هناك خمس سنوات بين عامي 1800 و 1805، كانت عائلته تعدّه للعمل في المحاماة أو الدبلوماسية أو التجارة، لكن الأقدار كانت تخبئ له مسارًا آخر.
عندما عاد الشاب يوهان لودفيج بوركهارت وهو في الحادية والعشرين من عمره إلى بازل لم يجد عملًا بسهولة، فسافر بعد فترة إلى لندن بحثًا عن عمل هناك، لكنه لم يوفق رغم ما كان يحمله من شهادات دراسية ورسائل توصية، وبعد عامين من المعاناة حصل الشاب على أول وظيفة له في لندن، وهنا لعبت المصادفة دورًا كبيرًا في تغيير مسار حياته، وفي دفعه إلى علاقة بعالم جديد لم يفكر في اقتحامه من قبل، عالم إفريقيا والمشرق العربي.
التقى بوركهارت بالسير جوزيف بانكس رئيس الجمعية الإفريقية، أو "جمعية تشجيع اكتشاف المناطق الداخلية من إفريقيا" التي تأسست عام 1788 في لندن، فحتى ذلك الحين لم يكن لدى الأوروبيين معرفة دقيقة بالأجزاء الداخلية من القارة الإفريقية، وكانت معرفتهم قاصرة على المناطق الساحلية وقليل من الأجزاء الداخلية من بعض البلدان مثل مصر، وقام السير بانكس بإلحاق بوركهارت بالجمعية وكلفه بالسفر إلى وسط وغرب إفريقيا، إلى حوض النيجر عبر مصر، وعند هذه النقطة تحولت حياة بوركهارت تمامًا.
كانت الرحلة تحتاج إلى إعداد خاص للتمكن من تحقيق أهدافها، فقامت الجمعية الإفريقية بإرسال بوركهارت إلى جامعة كمبردج لتعلم اللغة العربية، ودراسة الكيمياء والفلك وعلم الفلزات والطب.
وفي شهر فبراير من عام 1809 بدأ بوركهارت الرحلة إلى الشرق، ولم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين بعد؛ فأبحر متجهًا إلى مالطا، ومنها إلى مدينة حلب السورية التي وصلها في شهر يوليو، وقضى هناك ثلاث سنوات لمزيد من تعلم اللغة العربية والتعرف على الثقافة المحلية في منطقة المشرق العربي، وأثناء إقامته في حلب أطلق بوركهارت لحيته على الطريقة الشرقية وارتدى ملابس عربية وسمى نفسه الشيخ إبراهيم بن عبد الله، ثم أعلن اعتناقه الإسلام واتجه إلى دراسة القرآن الكريم.
وأثناء السنوات الثلاث التي أقام فيها بحلب قام بوركهارت أو الشيخ إبراهيم بالترحال في المناطق المحيطة بها، فتجول بين عدد من المدن السورية كما توجه إلى شمال العراق، وزار المناطق الأثرية في تدمر في سوريا وبعلبك في لبنان، وفي كل هذه الرحلات قام بتسجيل مشاهداته بالرسم والكتابة، وشكلت هذه التسجيلات كتابه عن الرحلة في سوريا والأراضي المقدسة.
وفي يونيو من عام 1912 توجه إلى مصر ليبدأ في تنفيذ مهمته الإفريقية، وفي طريقه إلى مصر مرورًا بفلسطين وشرق نهر الأردن مر بأطلال مدينة البتراء (بترا) وكتب عنها: "صرفت فترة 15 يومًا في الصحراء ما بين البحر الميت والبحر الأحمر ... وفي وسط المسافة بين البحرين تقوم آثار مدينة مهيبة تقع في وادي موسى، ويُحتمل أن تكون البتراء، فيها نشاهد مدافن ذات زخرفة منحوتة في الصخر، وبقايا معابد وقصور ومدرجات وقنوات مياه وغيرها من الغرائب والروائع النادرة التي تجعل هذه المدينة أكثر إثارة للاهتمام من أي شيء آخر شاهدته في حياتي".
وفي سبتمبر 1812 وصل الشيخ إبراهيم إلى القاهرة لينتقل منها إلى قلب إفريقيا مع قافلة فزان، ولكن تأخر موعد القافلة وحبه للاكتشاف دفعه لاستثمار الوقت في رحلة في صعيد مصر، كان في نيته أن تكون قصيرة، لكنها طالت أكثر مما توقع بكثير، وقادته إلى عوالم جديدة لم يخطط لزيارتها.
لقد كانت رحلة بوركهارت إلى المنطقة مواكبة للحظة مهمة في تاريخها، لنقطة تحول محورية، كانت المنطقة بكاملها تخضع للحكم العثماني لقرابة ثلاثة قرون عندما احتل السلطان العثماني سليم الأول العراق ثم بلاد الشام ومصر والحجاز في العقد الثاني من القرن السادس عشر، ثم امتدت الدولة العثمانية في شمال إفريقيا حتى وصلت إلى حدود مراكش قبل منتصف القرن نفسه، لكن الفترة التي زار فيها بوركهارت المنطقة كانت تشهد تحولات سياسية وثقافية واجتماعية مهمة، فـ"السلام العثماني" الذي ساد لثلاثة قرون كان قد بدأ يتزعزع، والنزعات الاستقلالية عن دولة "الخلافة" تتوالى؛ وكان من أكبرها وأهمها حركة علي بك الكبير في مصر وحركة ضاهر العُمَر في فلسطين، لكن الحركة الأخطر كانت الدعوة الوهابية التي هددت سيطرة السلطان العثماني على الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز، والتي حملت أفكارًا دينية سلفية، كما عرفت تلك الفترة مرحلة جديدة من مراحل الاحتكاك العنيف بالغرب الأوروبي بدأت مع الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798 ـ 1801) ثم الحملة البريطانية على مصر (حملة فريزر) 1807، كان الاحتكاك بالغرب في تلك المرة مختلفًا عن مرحلة الحروب الصليبية التي كان الطرفان فيها -الشرق والغرب- متكافآن حضاريًا، أو على الأقل متقاربان، فمع نهاية القرن الثامن عشر كان الغرب قد أنجز نهضته وحقق طفرة حضارية، بينما الشرق الخاضع للدولة العثمانية الغارق في تخلفه وجموده الذي تسببت فيه تلك الدولة يبدأ بالكاد في التحرك من ثباته.
وفي مصر كان محمد علي باشا الحاكم الذي فرضه الشعب على السلطان العثماني في ثورة كبيرة سنة 1805 يثبت أركان حكمه ويتخلص من منافسيه في الداخل، ويستحوذ على سلطات أكبر مقابل الخدمات التي يؤديها للسلطان في قمع الحركة الوهابية في الحجاز ونجد، كان محمد علي باشا يستعد لتغيير وجه الحياة في مصر، الولاية المحورية بين ولايات الدولة العثمانية في الشرق، في تلك اللحظة التاريخية الفارقة جاءت رحلة بوركهارت للمنطقة.
نعود إلى بوركهارت أو الشيخ إبراهيم الذي غادر القاهرة في خريف سنة 1812 إلى إسنا في صعيد مصر ومنها توجه جنوبًا إلى بلاد النوبة، حيث سجل ملاحظاته حول عادات أهل النوبة وشمال شرق السودان وعن عادات البدو في المناطق الصحراوية، كما شاهد آثار جنوب مصر وبلاد النوبة، ودوّن مشاهدته للأجزاء الظاهرة من أحد معبدي أبو سمبل الذي كان مطمورًا تحت الرمال، وكان ذلك قبل اكتشاف الإيطالي بلزوني للمعبد بأكثر من ثلاثين عامًا، لم يكن هدفه من الرحلة التنقيب عن الآثار أو اكتشافها، بل كان اهتمامه الأكبر في تلك الرحلة منصبًّا على دراسة المراكز التجارية وطرق التجارة، لذلك لم ينتبه لقيمة كشفه الكبير، وأصبح هذا الكشف مسجلًا باسم بلزوني، وقد سجل بوركهارت كما هي عادته وعادة رحالة ذلك الزمن رحلته رسمًا وكتابة، وضمنها في كتابه الثاني الرحلة لبلاد النوبة والسودان.
وفي صيف عام 1814 عبر بوركهارت البحر الأحمر من سواكن إلى جدة ومنها إلى مكة والمدينة حيث مكث هناك ثلاثة أشهر أدى خلالها فريضة الحج، وسجل مرة أخرى بالرسم والكتابة ملامح الحياة في الجزيرة العربية، كما دون ملاحظاته عن الحركة الوهابية.
ونظرًا لمرضه لم يبدأ رحلة العودة إلى القاهرة إلا منتصف سنة 1815، ومن هناك قام برحلة سريعة إلى سيناء ثم عاد ليستقر بالقاهرة إلى أن مات بعد إصابته بتسمم غذائي في 15 أكتوبر سنة 1817 ودفن جثمانه بمدافن باب النصر بالقاهرة.
وقد اقتنى بوركهارت خلال رحلته بالشرق عشرات المخطوطات العربية النادرة، كما خلفت رحلاته عددا من المؤلفات المهمة، منها: رحلة إلى النوبة وبلاد السودان، رحلة في سوريا والأراضي المقدسة، رحلة في الجزيرة العربية، ملاحظات على البدو والوهابيين، أمثال عربية، كما قام بعمل ترجمة لرواية روبنسن كروز إلى اللغة العربية.
وقد شكلت مؤلفات بوركهارت مصدرًا مهمًا لدراسة تاريخ الشرق في مطلع القرن التاسع عشر، وترجمت رحلاته إلى العربية منذ خمسينيات القرن الماضي.
لقد قدم لنا بوركهارت أو الشيخ إبراهيم اللوزاني كما سماه أهل زمانه معرفة تاريخية جديدة عن عالم المشرق العربي من خلال رؤية عين غريبة لكنها فاحصة ومدققة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة