نفتقد بفداحة أى تفكير مؤسسى يعيد بناء الدولة من جديد على أسس حديثة. المؤسسة مسألة قواعد فى الإدارة وتراكم فى الخبرات
نفتقد بفداحة أى تفكير مؤسسى يعيد بناء الدولة من جديد على أسس حديثة.
المؤسسة مسألة قواعد فى الإدارة ومسألة تراكم فى الخبرات ومسألة شراكة فى صناعة القرار.
يصعب الادعاء بأن هناك «دولة مؤسسات» فى مصر تقوم بواجبها وفق الالتزامات الدستورية.
فى أى دولة حديثة المؤسسات فوق الرجال.
عندما تغيب أية خطة لإصلاح مؤسسات الدولة فإن الأخطار سوف تقوض أية رهانات على تثبيتها.
الدولة الحديثة أو الاضطراب المؤكد.
لا يوجد أى احتمال ثالث.
للتاريخ دروسه المريرة التى يجب استيعابها بعمق حتى لا نكرر أية مآسٍ سابقة.
فى أعقاب «نكسة يونيو» جرت مراجعة واسعة لأسبابها السياسية والعسكرية.
أعيد بناء الجيش من جديد على أسس احترافية حديثة تناهض ما كان جاريا قبل النكسة.
وأقدم «جمال عبدالناصر» على أوسع عملية نقد لطبيعة نظامه فى محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى.
انتقد «دولة المخابرات» و«مراكز القوى» متبنيا فكرتى «دولة المؤسسات» و«المجتمع المفتوح» وحاور الأجيال الجديدة التى طلبت الشراكة فى صنع القرار السياسى.
فى توجهه للتعددية الحزبية، بحسب الوثائق المنشورة، اعتراف بعدم قدرة نظامه على حمل مشروع التغيير الاجتماعى الذى قاده ومعارك التحرر الوطنى التى خاضها.
خذلت ثغرات النظام إلهام مشروعه وأفضت إلى الانقضاض عليه.
كانت «كعب آخيل» الذى نفذت منه كل السهام وفق الأسطورة الإغريقية.
بعد رحيله سعى خلفه «أنور السادات» إلى تأسيس وضع دستورى جديد فى عام (١٩٧١).
كان ذلك توجها صحيحا للانتقال من «الشرعية الثورية» إلى «الشرعية الدستورية».
غير أنه لم يحترم الدستور ولا التزم ببنوده وقيمه.
عدم احترام الدساتير آفة سياسية مصرية متوارثة.
فيما هو منسوب إليه: «الدستور وضع لمن هو بعدى».
كان يعتقد أنه فرعون جديد لا يقيده دستور ولا تلزمه قواعد فى ممارسة السلطة.
بعد وقت قصير نسبيا أطلق على نفسه «رب العائلة» داعيا إلى «أخلاق القرية» وأصدر قانونا يحمل اسم «العيب» بالمخالفة لأى معنى حديث ينص عليه دستور (١٩٧١).
هكذا اجهضت الشرعيتان الثورية والدستورية معا.
فى لحظة تصور «السادات» أن «انتصار أكتوبر» يوفر شرعية جديدة لانقلاباته الدراماتيكية تنسخ «ثورة يوليو» وتوجهاتها دون أن يلتزم بأية قيم دستورية.
وكانت النتائج مأساوية فى نهاية المطاف.
على طريقه مضى خلفه «حسنى مبارك» دون تجديد فى بنية النظام معتمدا على «شرعية الضربة الجوية الأولى».
الحروب قد تؤكد الشرعيات لكنها ليست بديلا عنها.
بدت مصادرة «أكتوبر» عملا اعتياديا مرة باسم «بطل الحرب والسلام» ومرة أخرى باسم «صاحب الضربة الجوية الأولى».
فى المصادرة جرى تسطيح ملحمة الحرب وتضحياتها الهائلة وإلغاء أية أدوار لأبطالها العسكريين وأولهم الجندى المصرى العادى.
لم يكن «مبارك» معنيا بقضية «الشرعية الدستورية» التى لم يحترمها ولا التزم بقواعد «النظام الجمهورى» التى تأبى توريث السلطة من الأب إلى الابن.
تلاعب بالدستور فى سنواته الأخيرة بصورة استدعت استنفارا عاما أطاحه من الحكم.
تكررت المأساة فى نسخة أخرى.
بكل النظم المتعاقبة تغولت مراكز قوى بغير سند دستورى أو حساب سياسى.
هذه قصة طويلة ومريرة تمتد ظلالها إلى الحاضر.
قد تنشأ من داخل مؤسسات القوة على ما جرى فى ظل «عبدالحكيم عامر».
وقد تتولد فى عالم أصحاب المال والنفوذ على ما جرى بعد سياسة الانفتاح الاقتصادى والارتباط الاستراتيجى بالولايات المتحدة ورهن كل أوراق اللعبة فى جعبتها.
وقد تتبدى فى علاقات معقدة بين مراكز متعددة فى بنية النظام على ما جرى فى التسعينيات بين «زكريا عزمى» و«عمر سليمان» و«صفوت الشريف».
كانت أدوارهم تتجاوز طبيعة وظائفهم دون أن يكون معلوما الطريقة التى صنع بها القرار.
وقد تنعكس فى صراعات شبه معلنة على ما جرى بين الحرسين القديم والجديد فى العشر سنوات التالية التى أفضت إلى فوضى فى بنية التوجهات العامة.
كل من يلعب دورا فى صناعة القرار بلا سند دستورى فهو مركز قوة.
هناك فارق بين قوة المركز ومركز القوة.
الأول، يستمد نفوذه من منصبه والسلطات المخولة له قانونيا وهو يخضع للمساءلة.
الثانى، يتغول على ما ليس من حقه دون أدنى حساب.
فى تجربة حكم «الإخوان» حالة مختلفة جذريا لـ«مراكز القوى».
تصادمت الجماعة بخشونة مع الدولة وحاولت أن تكون بديلا عنها دون قدرة أو كفاءة.
وكانت النهاية سريعة ومحتمة.
أسوأ احتمال ممكن إنتاج نسخة جديدة من مراكز القوى.
أين ما هو فى موضعه الطبيعى يصنع القرار ويتحمل مسئوليته؟
وأين ما هو غير دستورى وغير معلن فى صناعة القرارات؟
سؤالان رئيسيان فى أى اقتراب جدى من الملف الملغم.
للرئيس صلاحيات واسعة فى الدستور غير أنها ليست مطلقة.
وذلك من طبيعة الدول الحديثة التى تخضع فيها الرئاسات للحساب السياسى.
بحسب النص الدستورى فإن الحكومة تشارك فى رسم السياسات العامة.
غير أن ما يجرى هو ذاته ما خبرته مصر على مدى عقود طويلة.
فالحكومة محض سكرتارية للرئيس لا شريك فى سياسة ولا صانع لقرار.
هناك فارق بين دولة الرجل الواحد ودولة المؤسسات.
الأولى، فردية تماما ويغلب عليها هشاشة البنية.. والثانية، القيادة تخضع للقواعد بقدر ما يتوافر لها من صلاحيات.
خلل المؤسسات يفضى بالطبيعة إلى ارتباك السياسات والقرارات ونشأة مراكز القوى فى مفاصل السلطة.
التداعيات كارثية على فكرة التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، الرهان الأكبر فى ثورتى «يناير» و«يونيو».
نشوء مراكز قوى جديدة فى السراديب المعتمة يعنى بالضبط نزع أى طابع حديث عن الدولة وأية قدرة على الحساب والمساءلة.
هذا خطر حقيقى يضرب فى بنية الدولة ويحول دون تثبيتها فى مواجهة تحديات وجودية.
سيادة القانون كاحترام الدستور من مستلزمات الدول الحديثة.
أخطر ما يحدث الآن شيوع «روح القبيلة» فى المساجلات العامة.
فى تنازع القبائل تغيب معايير الحساب وتتقوض دولة القانون.
إذا لم تكن هناك دولة قانون فلا دولة حديثة ولا دولة مؤسسات ولا أمل فى أى مستقبل.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة