كانت الخمس سنوات 2011 ـ 2016 مكلفة فى مصر وتونس، وكارثية فى ليبيا واليمن. ولكن هل يتم معالجة هذا الموضوع بتجاهله أم بتحليله علميا؟
كما تشير الإحصائيات فى هذا المقال، كانت الخمس سنوات 2011 ـ 2016 مكلفة فى مصر وتونس، وكارثية فى ليبيا، وسوريا واليمن. ولكن هل يتم معالجة هذا الموضوع بتجاهله أو إدانته أم بتحليله علميا؟ هذا فرق كبير لفت نظرى بين الداخل والخارج فى التقييم والمتابعة.
لاحظت أن معرض الكتاب الحالى وفى دورته السابعة والأربعين لم يتضمن أية جلسة أو ندوة عامة عن «الربيع العربي»، وهو فى الواقع أمر غريب مهما كانت توجهاتنا إزاء هذا الحدث الكبير الذى هز المنطقة العربية منذ خمس سنوات ولا تزال أصداؤه تسيطر على المنطقة: من حرب أهلية دامية فى سوريا، اليمن أو ليبيا إلى تغيير سياسى فى مصر. فيكفى أن نتذكر أنه فى هذا البلد حكم مصر رئيس واحد لمدة ثلاثين عاما تقريبا، بينما فى خمس سنوات تداول على الحكم ثلاثة رؤساء. الربيع العربى إذن هو مرحلة تغيير ضخمة فى المنطقة العربية ـ قبلنا أم أبينا، وهى إذن تحتاج إلى المتابعة والتحليل، مهما كان رأينا وتوجهاتنا السياسية، أى أننا لا يجب أن نخلط بين إعجابنا أو كرهنا لظاهرة معينة، وأهمية تحليلها، وإلا امتنع دارسو العلاقات الدولية عن تحليل الحروب، وامتنعت كليات الطب عن تدريس السرطان وغيره من الأمراض القاتلة. إذن تجاهل معرض الكتاب لهذا الحدث وحتى وسائل الإعلام ـ بعيدا بالطبع عن الهجاء ـ يتعارض كثيرا مع بعض الندوات والتحليلات فى الخارج بمناسبة مرور خمس سنوات على بداياته فى الشارع عندما قام الشاب الجامعى محمد بو عزيزى بحرق نفسه فى الجنوب التونسى.
السؤال الأساسى الذى يجب أن نسأله لأنفسنا سابقا وحتى الآن: هو لماذا أصبحت شرارة بوعزيزى حريقا هائلا فى معظم أنحاء المنطقة العربية؟ فالكثير من الشباب يعانى ويحرق نفسه أو ينتحر ولا تحدث مثل هذه العدوى فى الشارع العربى من مصر إلى اليمن إلى سوريا؟ الإجابة المختصرة هى أن حالته الفردية أو الشخصية عكست وترا حساسا عند الغالبية الكبرى من شباب المنطقة العربية. فهو شاب جامعى لم يجد عملا، وعندما حاول أن يخرج من جحيم البطالة ويكسب بعض قوت عيشه بأن يكون بائعا متجولا، تم القبض عليه بل أهانته الشرطية واستمرت إهانته داخل محطة الشرطة. وبالتالى لم يجد أمامه مفرا إلا أن ينتحر بحرق نفسه فى الشارع العام. ولأنها وضعت معاناة الشباب وبطالتهم على المحك، تعدت حالة بوعزيزى المستوى الفردى لتصبح ظاهرة عامة. استخلاص عام إذن: إذا لم نواجه مشكلة البطالة بين الشباب وبجدية، فالنتيجة تكرار الانتحار، ثم الاحتجاجات فى الشارع العام.
الاستخلاص الثانى هو أن النظام التسلطى يبدو قويا ومسيطرا ولكنه ينهار بسرعة مدهشة فعلا فقد اضطر زين العابدين بن على الى الهرب بعد أقل من شهر فقط من قيام الاحتجاجات فى الريف التونسى ثم انتشارها فى أنحاء البلاد. بينما أخذ مبارك أقل من ذلك ـ وبالتحديد 16 يوما ـ لإعلان تنحيه. أما الرؤساء التسلطيون الآخرون الذين رفضوا سماع صوت الاحتجاجات فقد تم اغتيالهم بطريقة مهينة، مثل موت القذافى وهو مختبيء فى ماسورة، أو الدخول فى حرب أهلية مدمرة ومكلفة، مثل بشار الأسد فى سوريا.
وهذا هو فى الواقع للاستخلاص الثالث. بالرغم من ضرورة التغيير وأهميته، فهو فعلا سنة الحياة فى زمن العولمة، إلا أن السؤال المهم كيف نقوم به دون دفع هذه التكلفة الهائلة. فمثلا أكد المنتدى الاستراتيجى العربى فى دورته السنوية السابعة (دبى 15 ديسمبر 2015) أن تكاليف الربيع فى مجملها بلغت حوالى 833.7 مليار دولار، أى ما يوازى الميزانية الكلية لعدة دول عربية، وفقدت الدول العربية حوالى 103 ملايين سائح فى السنوات الخمس الأخيرة، وواجه العالم نتيجة هذا الربيع وعدم القدرة على السيطرة على التغيير وتوجيهه فى أزمة اللاجئين بمآسيها الشخصية والاجتماعية: حوالى 14 مليونا معظمهم من الدول العربية، بالإضافة إلى 1٫34 مليون فرد بين مقتول، مفقود ومصاب. ونحن نعرف أن لندن شهدت فى الأسبوع الماضى مؤتمر المانحين لإنقاذ سوريا بعد نهاية الحرب الأهلية فى هذا البلد وخصصوا 10 مليارات دولار. وحتى إذا تم الوفاء بهذا الوعد، فكيف نعيد الموتى إلى ذويهم أو نعوض المصابين عن إعاقاتهم الجسدية والنفسية الذين سيعانون منها مدى حياتهم؟ وبالنسبة لدولة بترولية غنية مثل ليبيا، يقول البنك الدولى فى تقريره الأخير فى 6 فبراير إن إعادة البنية التحتية فى هذا البلد سيتكلف مالا يقل عن 200 مليار دولار، بشرط أن يتم التحكم فى تفتت هذا البلد والحرب الدائرة بين القبائل والميليشيات. لحسن الحظ لا تعانى مصر أو تونس من مثل هذه الكوارث. ولكن هذا لا يعنى أنه حتى فى هذين البلدين أن مواجهة تحديات التغيير والمشاكل المترتبة عليه قد تم فعلا حلها، وأهمها مثلا إدماج الشباب وعناصر جديدة فى دوائر اتخاذ القرار.
إذن الاستخلاص الرابع هو أن نجاح عملية التغيير يتضمن بل يرتكز على وجود هذه العناصر الجديدة التى لا تتمتع بخبرة سياسية فى إدارة الأمور. هى لها أفكار جيدة وعلى اتصال بقواعد شعبية، وبالتالى تستطيع أن تعبر عن هذه القواعد وتضمن نجاح النظام الجديد. بمعنى أوضح أنه لكى يتم التغيير بنجاح نحتاج لبرنامج محدد لما يسمى «التعليم السياسي».. فهناك فى كثير من الدول مثل هذه البرامج داخل الأحزاب السياسية، تماما مثل برامج تدريب الأشبال فى النوادى الرياضية.. ونحن نعرف أن مستقبل أى ناد كبير يعتمد ليس على نجومه الحاليين ولكن على مستوى أشباله ودرجة تعليمهم وتدريبهم.
يتطلب كل هذا حدا أدنى من البرمجة والمؤسسية وهو الاستخلاص الخامس: مؤسسية ودولة جديدة وليس الارتجال على طول الخط. ومن هنا أهمية الدولة ومؤسساتها الفاعلة وذات الفاعلية، وبالتأكيد ليس إعادة الدولة لما قبل التغيير، والتى كانت أساس الأزمة لأنها لم تفهم القواعد الشعبية وبالتالى لم تتعامل مع مشكلاتها.. ومن اللافت للنظر أن زين العابدين بن على فى مواجهة الأزمة استمر فى تكرار «لقد فهمتكم».. نفس التعبير أطلقه مبارك فى خضم الخضوع للمطالب بعدم ترشيح نفسه وعمره يقترب من منتصف الثمانينيات فى مجتمع غالبية سكانه لم يبلغ 30 عاما. عودة الدولة إذن التى تشمل الجميع وتتحاور معهم بدلا من الدولة السابقة التى كانت قائمة على الشللية، والنظر إلى هذه المؤسسات كأنها عزبة خاصة يتم التصرف فيها وحتى توريثها بمنطق الملكية الخاصة البحتة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة