"برلين السينمائي".. العرب حاضرون وأزمة اللاجئين تحت الضوء
مهرجان برلين يتخذ صورة الباحث عن كلّ جديد في صناعة السينما، فيختار بعضها للتنافس على الجائزة الأولى كأفضل فيلم (الدبّ الذهبي).
تمضي 6 أعوام فقط على نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فينطلق مهرجان سينمائيّ من قلب الحُطام، ليتحوّل لاحقاً إلى أحد أبرز 3 مهرجانات سينمائية دولية مُصنّفة في الفئة الأولى دولياً. الهزيمة العسكرية للنازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين وحلفائهم اليابانيين، المترافقة مع دمار كبير لبرلين (وألمانيا وأوروبا)، تُشكّل منعطفاً جديداً للألمان، دافعةً إياهم إلى إعادة بناء متكامل، يرتكز أساساً على أولوية الخروج من الخراب النازي، من خلال ترميم الإنسان الألماني، بتحريره من أدران ماضيه النازيّ هذا، ومن خلال بناء المدينة، والبدء بمشروع متكامل لنهوضٍ ثقافيّ عام.
"مهرجان برلين السينمائي الدولي -برليناله" ـ الذي يفتتح دورته الـ 66 مساء 11 فبراير 2016 بعرض "هايل، سيزار"، الفيلم الأخير للأخوين الأمريكيين جويل وإيثان كُوِن ـ يولد من ركام المدينة في العام 1951، لأن "الحلفاء الغربيين" (المنتصرين في الحرب، مع "عدوّهم" اللاحق "الاتحاد السوفياتي" بقيادة ستالين، والمتقاسمين معه المدينة والبلد، تمهيداً لإخضاعهما لسلطاتهم، خوفاً من انتقام نازي ـ فاشيّ ما، أو ما يُشبه النازي ـ الفاشيّ) يريدون "واجهةً للعالم الحرّ"، فإذْ بهم يرون في السينما "أفضل" أداة لتحقيق هذا، وإذْ بالسينما نفسها تتحوّل إلى أجمل ولادة ممكنة لمدينةٍ لن تتأخّر في إعلان انتصارها للحياة، على الرغم من "احتلالها" الجديد، المتمثّل بتقاسم النفوذ المباشر عليها بين الولايات المتحدّة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا.
منذ البداية، يتّخذ المهرجان صورة الباحث عن كلّ جديد في صناعة السينما، فيختار بعضها للتنافس على الجائزة الأولى كأفضل فيلم (الدبّ الذهبي)، علماً أن "السوق السينمائية" تُعتبر الأهمّ في تاريخ المهرجانات الدولية، بما فيها مهرجان "كان" السينمائيّ، المولود مباشرة بعد انتهاء الحرب تلك، أي في العام 1946.
ومنذ البداية، تتشكّل النواة الأساسية للمهرجان على ركائز لن تتغيّر خلال دوراته السابقة كلّها: فإلى جانب المسابقة الرسمية والسوق السينمائية، هناك "بانوراما"، و"أجيال"، و"مواهب شابّة"، و"استعادات"، غير أن السوق تبقى رافعة المهرجان، لأنها الأهمّ دولياً، حيث تُعقد صفقات العمل، ويتمّ التوافق ـ المبدئي أو النهائي ـ على تحقيق مشاريع مشتركة بين عاملين في شؤون السينما، إنتاجاً وصناعة وإبداعاً.
لن يكون الاهتمام الوحيد للـ "برليناله" منصبّاً على الفيلم الروائي الطويل، لأن هناك مسابقة خاصّة بالأفلام القصيرة أيضاً، تُمنح فيها جائزتا "الدبّ الذهبي" لأفضل فيلم قصير، ولجنة التحكيم. أما مسابقة الأفلام الطويلة، فجوائزها موزّعة على الدبّ الذهبي لأفضل فيلم (منذ نشأته في العام 1951)، والدب الفضي في الفئات التالية: الجائزة الكبرى للجنة التحكيم (منذ الدورة الأولى في العام 1951 أيضاً)، أفضل مخرج وأفضل ممثلة وأفضل ممثلة (منذ دورة العام 1956)، وأفضل مشاركة تقنية (منذ العام 2008).
يُذكر أن جائزة الدبّ الفضي لأفضل موسيقى تصويرية تُمنح بين العامين 2002 و2007 فقط، ولأفضل مشاركة فنية بين العامين 1956 و2007، ولأفضل أداء فردي لافت للانتباه بين العامين 1956 و2005. علماً أن جائزة ألفرد باور (منذ العام 1987)، تحمل اسم المدير المؤسِّس للمهرجان (يترك منصبه كمدير في العام 1976، ويتوفى في العام 1986) كتكريمٍ له، هي التي تُمنح لفيلمٍ "يُعلن اقتراحاتٍ جديدة للفن السينمائيّ، أو يُقدِّم رؤية جمالية مبتكرة وفريدة من نوعها".
يبدأ العام 2016 بمهرجان برلين، الذي يُقدِّم 18 فيلماً ستكون عروضها داخل المسابقة الرسمية "الأولى" دولياً. شرطٌ تُصرّ عليه إدارة الـ "برليناله"، تماماً كما هو حال مهرجاني "كانّ" (مايو) و"البندقية ـ فينيسيا" (سبتمبر). فالمهرجانات الدولية الـ 3 هذه تحافظ على وهج أن تكون المنفذ الأول لجديدٍ يُتوقّع له أن يكون دافعاً إلى تأمّل في أحوال الصناعة والإبداع واللغة الجمالية. وهي، إذْ تبدو انعكاساً لتطوّر العمل السينمائيّ في دول مختلفة من العالم، تزيد من متعة المُشاهدة، لأنها تمنح ضيوفها ومدعويها فرصة التنبّه إلى الجديد هذا، في إطلالته الأولى.
في المقابل، يُشارك بعض العرب في الدورة الجديدة للـ "برليناله". فالتونسي محمد بن عطيّة يُقدِّم باكورته السينمائية "هادي" في المسابقة الرسمية: يروي حكاية شاب يعيش حياته بناءً على معتقدٍ تأمّليّ خاص به، مفاده أن الحياة هذه لن تمنحه أي مفاجأة. وذلك ناتجٌ من كونه أسير إرداة أمه المسيطرة عليه، قبل لقائه شابّة تلعب دوراً أساسياً في إطلاقه صوب حرية ذاته وقراراته وحياته. والجزائري رشيد بوشارب يُشارك، بـ "السبيل إلى إستنبول"، في برنامج "بانوراما": امرأة بلجيكية تبحث عن ابنتها الملتحقة بتنظيم متطرّف يحارب في سورية. من جهته، يتابع المصريّ تامر السعيد، في "آخر أيام المدينة" (برنامج "فوروم")، مسار سينمائيّ شاب يحاول إيجاد المشترك بين غرباء يرسلون أفلامهم إليه.
إليهم، ينضمّ السعوديّ محمود صبّاغ بأول فيلم له بعنوان "بركة يُقابل بركة" (موظّف شاب يلتقي شابّة فيُعجب بها، ويحاولان معاً إيجاد وسائل مختلفة للقاءات جميلة بينهما)، ويأتي المغربي هشام لعسري بآخر نتاجاته "جوِّع كلبك"، المتوغّل في الأحوال الراهنة للمغرب، بالإضافة إلى "مخدومين" للّبناني ماهر أبي سمرا، و"مواد سحرية تطفو في داخلي" للفلسطينية جومانة مناع، و"منازل بلا أبواب" للسوري آفو كابرئليان... يُذكر أن الأفلام الثلاثة الأخيرة وثائقية.
بالإضافة إلى هذا كلّه، لم تتغاضَ إدارة "مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ" عن الهمّ الجماعي، أوروبياً وغربياً ودولياً، المتمثّل بسؤال المهاجرين إلى القارة القديمة. فالمسألة صعبة ومعقّدة، والجانب الإنساني فيها يُحتّم على مسؤولي مهرجان سينمائيّ ـ منبثق من جرح إنسانيّ تصنعه الرغبة الصادقة في الخروج من آثار الحرب العالمية الثانية ـ إيلاء السؤال اهتماماً واضحاً، ما يدفع إلى إصدار بيان يحثّ "الجمهور الألماني للمهرجان، وضيوفه الأجانب" على "التبرّع لأشخاص يتعرّضون لصدمات نفسية بسبب التعذيب والحرب والهجرة والاضطهاد". كما أن إدارة الـ "برليناله" توزّع صناديق لتلقّي هبات مادية في محيط مقرّها القائم في حيّ "بوتسدام".
لكن إدارة المهرجان لن تكتفي بهذا فقط. فهي ستختار ما بين 10 و20 لاجئاً، "لتمضية فترة محدّدة في مكاتبها وكواليسها، بغية التعرّف إلى قيادات المهرجان وأساليب عمله".
10 أيام ستكون انطلاقاً حيوياً لمهرجانات تخرج من محليتها الضيّقة إلى رحاب العالم، كي تختبر الحراك السينمائي الدولي، بتسليطها الضوء على كلّ جديد ممكن الحصول عليه، وعلى كلّ واعدٍ بحرفية مهنية ما.
aXA6IDE4LjIyMi4yMC4yNTAg جزيرة ام اند امز