منذ الثورة العربية، يناير 2011 أو قبلها بقليل، والعرب بين خيارين: إما الاستبداد، وإما التفتيت، وكأن وحدة الأوطان لا تأتى إلا بالاستبداد
منذ الثورة العربية، يناير 2011 أو قبلها بقليل، والعرب بين خيارين: إما الاستبداد، وإما التفتيت، وكأن وحدة الأوطان أو وحدة الأمة لا تأتى إلا بالاستبداد كما حدث فى العراق وسوريا وليبيا واليمن وسقوط النظم الاستبدادية لصالح التجزئة العرقية أو الطائفية أو المذهبية. والسؤال: هل هناك خيار ثالث؟ وما هو؟
الخيار الأول (الاستبداد) يوحّد بين الله والسلطان. ويرسم خريطة أسماء الله الحسنى واسمه، المخلوع أو الهارب أو المقتول، فى وسطها. فهو المنتقم العزيز الجبار المتكبر إلى آخر التسعة وتسعين اسما المعروفة فى علم الكلام. وقد توضع شعارات مثل «بشار الأسد إلى الأبد». كما يعطى لنفسه لقب «بطل الساحل والصحراء». يوزع المال على المثقفين والإعلاميين لشراء أقلامهم. ويعطى مساعدات للدول الفقيرة من أفريقيا بشرط التحالف معه. ويغتال المعارضين بسبب أو بلا سبب مثل موسى الصدر فيختفى إلى الآن. ويتكون المواطن على الخوف والنفاق. فإن لم يستطع فالاعتقال أو الهجرة. وحين تندلع الثورة يسقط مدويا أو يهرب إلى بلد مجاور أو تغتاله قوة كبرى بعد غزو بلده بحجة أو بدون حجة. وتنشب الحرب الأهلية فى وطنه بين المعارضة المسلحة والنظام. وتتدخل القوى الكبرى. وينتظر المصير.
والخيار الثانى (التفتيت والتجزئة) استمرارا فى تحقيق مطلب معاهدة سايكس بيكو فى مرحلة جديدة. فبعد سقوط الدولة العثمانية لم تجد القوى الاستعمارية الكبرى إلا تفتيتها فى دويلات صغرى طبقا للتاريخ أو الجغرافيا أو السكان بين المغرب والجزائر وتونس والشام تحت الاستعمار الفرنسى، وموريتانيا تحت الاستعمار الإسبانى، وليبيا والصومال تحت الاستعمار الإيطالى، ومصر والعراق واليمن والخليج والأردن تحت الاستعمار البريطانى. ومع ذلك قامت حركات التحرر الوطنى لتحرير الوطن العربى وتأسيس الدولة الوطنية الحرة المستقلة، سلما أم حربا. وقامت هذه الدول على نظام مستبد. فالزعيم الوطنى الحر يعتمد على تاريخه وليس حاضره أو مستقبله. وعمها الفساد والتخلف. فبدأت فى الضعف ثم الانهيار بالانقلابات الداخلية. ونشأت حروب أهلية وخلافات حدودية بين كل دولتين عربيتين: المغرب والجزائر حول واحة تندوف، ليبيا ومصر بين قبائل أولاد على، مصر والسودان حول حلايب وشلاتين ومثلث وادى حلفا، مصر وفلسطين حول مثلث العوجة، الكويت والسعودية حول المنطقة تحت ولاية الأمم المتحدة، الكويت والعراق حول آبار النفط جنوب العراق وشمال الكويت لدرجة الحرب والغزو العسكرى، وسوريا ولبنان حول وادى الحمة. ثم قامت الحركة القومية العربية لتضع الأمة فى قالب سياسى واحد. وبلغت ذروتها فى الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961. وبعد هزيمة 1967 ضعفت الدولة الوطنية وتآكلت من الداخل والخارج فنشأت الحركة الإسلامية لتتجاوز حدود الدول الوطنية والقومية العربية وتستعيد حلم الخلافة القديم فى شكلها المحافظ. فشوهت الصورة أكثر مما استدعت الناس إليها.
والآن تتفتت الدولة الوطنية إلى دويلات عرقية ومذهبية وطائفية لتصبح إسرائيل هى الدولة القومية الطائفية الأقوى فى المنطقة. تساندها أمريكا. ويتأصل وجودها على نفس الأسس التى تأسست عليها الدويلات العربية، الإسلامية المسيحية اليهودية. ومن ثم تكسب إسرائيل الحرب دون أن تدخلها. ويخسرها العرب دون أن يدخلوها. وتكون نتيجة التفتيت إما انغلاق الطوائف على نفسها أو الهجرة ومغادرة البلاد أو تعانى من أشكال الاضطهاد وتنتظر وقت الخلاص.
والسؤال الآن: ما العمل؟ جرّب العرب الدولة الوطنية والدولة القومية وفى طريقهم إلى الدولة الإسلامية بثقافة إسلامية محافظة. فهل الإسلام هو الحل؟ والحرب قائمة بين سنة وشيعة، بين عرب وأكراد. والتكفير على آخره، وقطع الرقاب، والإماء والرق إلى آخر ما هو موجود فى كتب الفقه القديم. وكلهم مسلمون. وأصبحت كلمة «داعش» تساوى الإسلام، و«داعشى» تساوى مسلم. وتشوهت صورة الإسلام من معتنقيه إلى محبيه إحساسا بالتميز باللثام والعلم الأسود. وهو لون الموت والحزن والعزاء. وقُتل الأبرياء بالتفجيرات وسط العواصم الغربية. وزُرعت الكراهية بين المسلمين والمسيحيين بعد أن طال الحوار بينهما. وأصبح الإصبع على الزناد يساوى المصحف فى اليد. واتهم الإسلام بأنه لا يعرف حقوق الإنسان وأنه لا فرق فيه بين دم الإنسان ودم الحيوان.
فهل يحاول العرب النظام الفيدرالى؟ وهو نظام يجمع بين الدولة الوطنية بعد حمايتها من العدوان الخارجى والداخلى والدولة القومية الواحدة؟ هل يرضى الوطنيين والقوميين؟ هل يحميها من الخيارين الأولين، الاستبداد والتفتت؟
يعنى النظام الفيدرالى الحد الأدنى من النظام القومى، مثل الحدود المفتوحة، حرية التجارة، الاستيراد والتصدير. كما يعنى القوة العسكرية الواحدة القادرة على حماية بلاد العرب من الاحتلال والقدرة على تحرير فلسطين. وتضع سياسة خارجية واحدة، والتعامل مع الغرب والشرق بأسلوب واحد على المستوى الدولى. وتستطيع الدخول فى حوار مع القوى الإقليمية المجاورة، تركيا وإيران، أكثر من مائتى مليون مواطن مع قوة عسكرية متقدمة بما فى ذلك السلاح النووى. تملأ فراغ الشرق الأوسط بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد الذى تملؤه أمريكا وإسرائيل. ونكون تكتلا جديدا، يدا فى يد مع منظمة الوحدة الأفريقية وحل التناقضات بينها مثل «سد النهضة». وهى منطلقة وسط العالم. ميزان التعادل بين الشرق والغرب بالرغم من العالم ذى القطب الواحد وإن بقى تعارض المصالح بين القوتين الكبيرتين فى سوريا. وتحيى من جديد منظومة العالم الثالث وسياسة الحياد الإيجابى ومنظمة شعوب آسيا وأفريقيا. فلم يعد العصر عصر دول وطنية، بل اتحادات مثل الاتحاد الأوروبى، ومنظمة جنوب شرق آسيا. وتأخذ الجامعة العربية دما جديدا أو تتجاوز نقائصها أى ضعفها وقلة حيلتها أمام التناقضات العربية وعجزها عن حل قضية فلسطين. وفى نفس الوقت تحافظ على ما تبقى من الدولة الوطنية. تحافظ على تعدديتها العرقية والطائفية والمذهبية. ولا يضيع العرب بين سنة وشيعة، وأكراد وأرمن. ويبدعون مقومات نهضة عربية جديدة. ويلحقون ماضيهم بحاضرهم، بدلا من التحسر والندم والضياع. ويخلقون أندلسا جديدة، تعيش فيها أمة متعددة الأعراق والمذاهب والطوائف والأديان. وتساهم فى وضع أسس للسلام العالمى. فى النظام الفيدرالى تتأكد الهويات المتداخلة. فلكل عربى موطن ميلاد، القاهرة ودمشق أو بغداد. وله لغة يتكلمها هى العربية. فالعروبة هى اللسان. وكل من تكلم العربية فهو عربى. وتحل قضايا التنمية، خاصة أن مواردها موجودة من مياه وأرض وثروات طبيعية ومعادن وطاقة أو عمالة يدوية وذهنية. ولا توجد مخاطر لانفصال الدول الداخلة فى فيدرالية واحدة. فهذه نزعات مغالية عرقية أو طائفية أو مذهبية. يوقف ضدها بالسلاح حفاظا على وحدة الفيدرالية. ولا توجد مخاطر لأن تتحول الفيدرالية إلى نزعة قومية أو دينية متطرفة. فهذا عود للاستبداد بل يحافظ على هوية كل عرق ومذهب وطائفة والمواطنة تقضى على هذه النزعات المتطرفة، ورد الكل إلى أحد أجزائه. والنموذج «ميثاق المدينة» الذى جمع بين اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والطوائف فى أمة واحدة، هى الأمة الإسلامية. وقد قامت معظم الدول الأوروبية الحديثة بعد تفتت الإمبراطوريات إلى دول فيدرالية مثل إنجلترا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا. فإذا ما استبد جزء بالكل وقعنا فى النازية والفاشية. تعنى الفيدرالية أن أكون أنا هو أنا، وأنا هو غيرى فى آن واحد طبقا لقانون الهوية والاختلاف. وهنا يخرج العرب من بين المطرقة والسندان، بين الاستبداد والتفتيت بهذه التجربة الفيدرالية التالية بعد الوطنية والقومية. وتضاف إلى رصيد وعيهم التاريخى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة